ـ جدلية التصنيفات الأدبية صنعتها المؤسسات.. والقارئ سيحب الكتاب الجيد أيا كان نوعه
«إلى القاهرة وأرواح العابرين»، هكذا أهدى الكاتب المصرى هشام أصلان مجموعته القصصية «ثلاثة طوابق للمدينة»، الصادرة حديثا عن دار الشروق، إلى المدينة التى يعشقها وتربطه بها علاقة خاصة. يسرد هشام أصلان من خلال مجموعته القصصية علاقة خاصة مع مدينة القاهرة، راصدا كثيرا من التحولات التى طرأت على بعض من وجوهها، وتأثير هذه المدينة الكبيرة بجوانبها على سكانها والعابرين عليها. فى حواره مع جريدة الشروق يتحدث عن مجموعته «ثلاثة طوابق للمدينة»، ويحكى عن علاقته بالقاهرة وتأثيرها فيه وأوجه الشبه بينه وبينها.
< ماذا عن الانشغال، داخل المجموعة، بالتغيرات الاجتماعية التى طرأت على المدينة عبر الزمن؟
ـــــ التغيرات الاجتماعية فى ذاتها ليست هى ما يشغلنى بالضبط، ولكن يشغلنى ما يفعله الزمن وهو يمر على الأماكن بناسها.. التغيرات فى شكل المكان تعنى بالتبعية مرور زمن بما يعنيه هذا من فقد أحدهم لآخرين بل لأيامه نفسها، وهذا يتجلى فى شارع كان متسعا وضاق بمرور الزمن بعدما ازدحم بمبان جديدة مثلا، أو ترعة تم ردمها لإنشاء طريق، تلك التغيرات العمرانية لا تعبر فقط عن تطور اجتماعى بقدر ما تعبر عن أيام ذهبت بلا عودة لأصحابها. وهكذا تلح على الواحد أسئلة من قبيل، ماذا يفعل الزمن بالناس، وكيف يستطيع الإنسان مواصلة الحياة مع هذا المرور شديد القسوة.
< ما سر التأثير الكبير لمدينة القاهرة فى هشام أصلان، ما تجاوز محاولة سردها إلى إهداء مجموعتك القصصية إليها؟
ــــ أنا ابن مدينة القاهرة تماما، عشت فيها بـ«طولها وعرضها»، والقاهرة لا تعنى لى وجهها البراق فى «وسط البلد» أو محيط المثقفين، ولا حتى أحياء بعينها، لكنها تلك المدينة متعددة الوجوه مترامية الأطراف، مدينة تشبه الأم التى مهما شُرد أبناؤها يظل هناك خيط بينهم وبينها، ينطبق هذا على البشر وحتى على فراغاتها العمرانية، بمعنى أنه حتى الأحياء التى أنشئت خارج حدودها المعروفة عبر فترات زمنية مختلفة، لا تلبث أن تتصل بها سريعا وتذوب فى نسيجها الكبير.. وأنا، مثل أغلب الذين ينتمون إليها بالكامل، وبرغم رؤيتى لعشرات المدن داخل وخارج مصر، لا أشعر بالاتساق نفسيا وجسديا سوى داخل القاهرة.
< ما الذى يحبه هشام أصلان فى القاهرة، ويرى فيه الاختلاف عن المدن الأخرى؟
ـــ الليل أكثر ما أحبه فى القاهرة. ذلك أنها مدينة ذات نهار قاس، ترك التطور الزمنى عليه علامات عنيفة، وبرغم كل هذه القسوة والعشوائية فى النهار تتحول إلى مدينة حنونة بمجرد حلول الليل، وتصبح وكأنها مدينة أخرى ذات سحر يعرفه أبناؤها وزوارها، لا أعتقد أن هناك من لم يسحره ليل القاهرة أو وقع فى غرامه. وفضلا عن ما يقدمه سحر المدينة فى المساء، أحب فيها التنوع الإنسانى الذى لم أره فى مدن أخرى، بالإضافة إلى التنوع الثقافى. وهى مدينة شديدة الصعوبة على غير المتواضعين، لا تقبل التعالى عليها. وأنا لا أحب أن أبدو كمن يتحدث بنزعة تعالى أبناء العاصمة، ولكن أكم من حكايات لمبدعين أتوا إليها من مدن مصرية أخرى وفشلت تجاربهم الأولى معها نظرا لأنهم جاءوا بمنطق: «نحن هنا لنغير العالم»، قبل أن يصدمهم الارتباك والتلعثم، والذين أدركوا أن عليهم التحلى بالتواضع وتوخى الهدوء ومحاولة الفهم، هم من فتحت لهم المدينة ذراعيها متهمة بأنها مدينة قاسية وهذا له تفسير، فهى مدينة قاسية على الذين لا يتواضعون، أما من يتعامل معها بتواضع فنرى أنها تفتح له أبوابها. هى مدينة ليست شريرة لكنها غير قابلة للتعالى.
< ما أوجه التشابه بينك وبين القاهرة؟
ــــ الانزعاج من الهدوء التام، كما القاهرة التى هى مدينة لا تهدأ، أنا لا أحب الصمت المطلق، والونس بالنسبة لى ضرورة، ولو احتجت إلى العزلة أحب أن تكون على مقربة من آخرين، لا نتواصل لكننى أعرف أنهم موجودون بالقرب.
< ما السبب فى أن الحزن وعدم التفاؤل حاضران بشدة فى قصصك، كما أن غالبية أحداثها تدور ليلا؟
ــــ أبدا، ليس عدم تفاؤل، ربما هى مسحة شجن تتعلق بطبيعة التأملات والأسئلة التى جاءت بالنصوص، ذلك أن أغلبها جاء نتيجة حالة انفراد بالنفس فى فترات سيطرت على فيها حالة تأمل العالم بعين لا تحتك بحركة حياتية، ولكن كانت أشبه باستعادة أشخاص رحلوا أو مواقف مرت احتقنت بها داخليا، وهو شىء لا يعنى الوحدة. وفى الغالب هذا النوع من التأملات يولد شجنا وشعورا بحنين لأوقات ولت، فيما الليل يساهم فى صناعة جغرافيا ملائمة لسرد هذه الحالة، ويوفر لرواة القصص عالما ومناخا ملائمين.
< رصدت التغيرات الاجتماعية للمدينة عبر شخوص مختلفة ومرور الزمن عليهم وعلى أماكن حياتهم، حدثنا عن المسافة بين الواقع والخيال فيما سردت..؟
ــــ ألجأ للخيال حين أحتاج حيلة فنية تساعد على إكمال صورة العالم الذى أود الحكى عنه، وتوفير سياق يعطى اللحظة الواقعية شكلا بارزا. هكذا أستطيع القول إن كثيرا من اللقطات فى المجموعة كانت واقعية، لكنها احتاجت إلى وضعها فى سياق خيالى يقدمه إلى القارئ، بمعنى أنه على سبيل المثال، كل شخصيات المجموعة هى شخصيات أعرفها وتعاملت معها فى حياتى ولكن ليس كل ما قيل على لسانها فى المجموعة أو حدث لها قيل أو حدث فى الحقيقة.
< لماذا اخترت ألا تكون هناك ملامح واضحة لأبطال القصص؟
ــــ لم يشغلنى وصف الأشخاص وملامحهم، ولكنى كنت حريصا على وضعهم فى السياق الذى يسمح للمتلقى بأن يستطيع تصور هذه الملامح عبر تصدير ثقافاتهم والطبقات الاجتماعية التى ينتمون إليها، أو للدقة تصورت أن ملامح أرواح الأشخاص واضحة بما يكفى وللقارئ أن يتخيل شكل الشخصية بحسب تصوره، ذلك أننى أتصور أنه لا يوجد متلق لم يقابل مثل هؤلاء الأشخاص فى حياته، أو بعضهم على الأقل، والمؤكد أن روح الشخصية ستذهب به إلى ملامح شخص قابله. هناك عنصر آخر يتعلق بكون المكان هو الملهم الأكبر فى هذه القصص، كما أنه أغلب الشخوص رحلوا عن عالمنا، وتصورت أن بعض التجريد قد يساعد فى شعور أقرب لفكرة عبورهم إلى العالم الآخر.
< لماذا اخترت كتابة القصص وليس الرواية؟
ـــــ فكرت فى صياغة هذه النصوص فى شكل روائى، لكننى لم أجد ضرورة.. وهنا أحب أن أقول شيئا، أنا أرى أن القارئ ليس مهتما بجدلية التصنفيات الأدبية التى تشغلنا، والتى بدأت منذ فترة طويلة مع انتشار مصطلح «زمن الرواية» الذى وضعه الدكتور جابر عصفور ربما فى التسعينيات أو أوائل الألفية، ثم تفاقمت الفكرة مع إطلاق عدد من الجوائز الأدبية الكبيرة التى تهتم بفن الرواية ما جعلها صنفا مغريا للكثير من الكتاب ودعمها كثيرا كفن، فضلا عن الحسابات التجارية للناشرين وتأثر المؤسسات الثقافية بهذه الحالة فى مجملها، بينما الحقيقة أن القارئ لن يكمل قراءة كتاب فقط لأن كاتبه صنفه كرواية كما لم يترك كتابا لأن كاتبه صنفه كمجموعة قصصية.. طبعا مفهوم أن الحالة التى تصنعها المؤسسات أو العاملون فى الحقل الأدبى لها تأثير على التلقى العام لدى القارئ، لكن المؤكد أن هذا القارئ سيكمل الكتاب إن أعجبه ما يقرأ، وسيتركه إن لم يعجبه، بصرف النظر عن تصنيفه الأدبى. وإذا عدنا بالذاكرة سنجد أن بعض الكتب التى تم تصنيفها بوصفها «نصوصا مفتوحة أو سيرة ذاتية» مثلاً وكتبها روائيون، لاقت نجاحا لا يقل عن نجاح رواياتهم، إن لم يكن أكبر، وإذا وضعنا فى اعتبارنا احتياج القارئ الجديد فى عصر السوشيال ميديا وسمات اللحظة الزمنية السريعة التى نعيشها ستجد أن النصوص القصيرة أنسب لها، ذلك أنك أمام قارئ يملّ من قراءة تدوينة طويلة على فيسبوك، ومن هنا، فإن الرواية إن لم تكن شديدة الجاذبية سيتركها القارئ بعد عدة صفحات، بعكس القصة القصيرة التى يمكن للقارئ معها أن يترك قصة لم تعجبه ويقرأ أخرى أعجبته فى الكتاب نفسه. ما أعنيه أن معركة التصنيفات وانتشار فن أو تراجع غيره لا يعد دلالة صادقة مع الأسف على حالة القراءة.