يُحيي الأزهر الشريف ليالي شهر رمضان المبارك بإقامة صلاة التراويح "بواقع 20 ركعة يوميًا"، حيث يتم خلالها تلاوة جزء كامل من القرآن الكريم بالقراءات العشر المتواترة، ووقع الاختيار على نخبة من أئمة الأزهر الشريف، المشهود لهم بالاتقان في الحفظ وحسن الأداء، لإمامة المصلين وإثراء الأجواء الروحانية.
وبمشاركة لقطات من تلاوات التراويح في الأزهر الشريف عبر المنصات المختلفة، حظيت التلاوات بإعجاب واسع من المتابعين، حيث أدهشتهم روعة الأداء وجمال التنغيم بالقراءات العشر المتواترة، وأثار تنوع النطق والتلاوة، الذي قد يكون غير مألوف لدى كثيرين، فضول المتابعين ودفعهم للبحث عن أصول هذه القراءات وما يميز كل منها، في رحلة لاستكشاف ثراء التراث القرآني وروعة تنوعه.
-ما معنى القراءات العشر؟
هي نُطق القرآن الكريم بأوجه مختلفة، اتفقت جميعها في المعنى، لكنها اختلفت في كيفية النطق ببعض الألفاظ، من حيث التشكيل أو الحروف أو المدود أو غيرها من القواعد التجويدية، وتم توثيقها ونقلها عبر سند متصل إلى رسول الله، مما يجعلها متواترة وصحيحة.
-لماذا يتعدد الرواة للقارئ الواحد؟
بينما ينقل راوٍ آخر وجهًا مختلفًا، وهو ما يظهر في راويي نافع وعاصم، حيث يُعرف هذا الاختلاف بـ"الرواية"، وليس "القراءة"، مما يؤكد عدم تجاوز عدد القراءات المتواترة العشر المعتمدة.
وفي "غاية النهاية في طبقات القراء"، يروي ابن الجزري أن حفص بن سليمان سأل شيخه عاصم بن أبي النجود عن سبب اختلافه عن أبي بكر شعبة، فأجابه قائلاً: "أقرأتك بما أقرأني به أبو عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب، وأقرأت أبا بكر بما أقرأني زر بن حبيش عن عبدالله بن مسعود"، مما يعكس أمانة النقل في علم القراءات، أما الضباع، فقد ذكر في كتابه "صريح النص" أن ابن الجزري اختار رواية حفص من عدة طرق متصلة بأسانيد موثوقة، ومنها طريق عبيد وعمر، بالإضافة إلى طريق الفيل وذرعان، كما تتبّع روايات متعددة موثقة في مصادر مثل المصباح، المبهج، الوجيز، الكامل، المستنير، وكفاية أبي العز، مما يعكس دقة العلماء في توثيق الأسانيد وضبط الروايات القرآنية المتواترة.
-حفص عن عاصم.. القراءة الأكثر انتشارا في العالم الإسلامي
حققت رواية حفص عن عاصم انتشارًا واسعًا في العالم الإسلامي، ما جعلها الأكثر استخدامًا في التلاوة والطباعة والتعليم، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل تاريخية وثقافية ودينية ساعدت في ترسيخ مكانتها عبر القرون، برزت هذه الرواية في الكوفة، التي كانت مركزًا علميًا رئيسيًا في العصر الإسلامي الأول، مما أتاح لها بيئة خصبة للنمو والانتشار بين القراء والمقرئين، وساعد على ذلك الدور البارز لحفص بن سليمان، الذي كان أحد أكثر طلاب عاصم بن أبي النجود إتقانًا لقراءته، حيث تفرّغ لتعليمها ونشرها، على عكس غيره من الرواة الذين انشغلوا بالقضاء أو الفتوى.
ومع تحوّل الخلافة الإسلامية إلى بغداد، انتقل حفص إليها واستمر في نشر روايته بين طلاب العلم والعلماء الوافدين إلى المدينة، ما أدى إلى زيادة انتشارها في العراق وما جاوره، كما أن إقامته في مكة المكرمة وإقرائه للحجاج والوافدين إليها ساعد في انتقال هذه الرواية إلى مختلف الأقاليم الإسلامية.
أما في العصور اللاحقة، فقد أسهمت الدولة العثمانية في تعزيز حضور هذه الرواية، حيث فضّل العثمانيون اعتمادها في المصاحف الرسمية التي كانوا يوزعونها على مناطق نفوذهم، كما كانوا يرسلون أئمة ومقرئين متقنين لهذه الرواية إلى مختلف البلدان، مما أدى إلى ترسيخها كالرواية الأكثر تداولًا، وفقا لما جاء بدراسة بعنوان: "القراءات القرآنية في عصرنا الحاضر بين الانتشار والانحسار" بجامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، وذكرت الدراسة أيضا أن الإذاعات والمرئيات بمختلف أنواعها، سواء التقليدية أو الحديثة أثرت على انتشار رواية حفص عن حيث أصبحت الغالبية العظمى من التلاوات القرآنية المسموعة والمرئية تُبَثُّ بها، ويعود ذلك، إلى كون أول تسجيل صوتي للقرآن الكريم في العالم الإسلامي قد تم برواية حفص، بصوت القارئ الشيخ محمود خليل الحصري وذلك في عام 1960.
-ورش عن نافع
تُعَدُّ رواية ورش عن نافع من أقدم الروايات القرآنية التي انتشرت في الغرب الإسلامي، حيث انتقلت من المدينة المنورة إلى مصر، ومنها إلى بلاد المغرب العربي، وموريتانيا، وأجزاء من السودان وتونس، وذلك وفقًا لما ذكره مركز تفسير للدراسات القرآنية.
وبحسب ما أورده ابن عاشور فإن قراءة نافع برواية ورش هي المعتمدة في الجزائر، والمغرب، والمناطق التابعة له، وبعض القرى في مصر والسودان، وجزء من تونس وموريتانيا، ما جعلها من الروايات الأكثر تداولًا في هذه الأقاليم.
أما في السودان، فقد لاحظ الشيخ محمود خليل الحصري خلال رحلاته، أن مدينتي دنقلة ودارفور تتميزان بانتشار رواية ورش، بينما يعتمد أغلب السودانيين على قراءة أبي عمرو البصري، وذلك بحسب ما ذكره في ملاحظاته الميدانية.
كما أشار الحصري إلى أن رواية ورش كانت سائدة في مدينة دنقلة خلال عهد مملكة الفونج "القرن 10هـ"، لكنها تراجعت بمرور الزمن، فيما لا تزال محافظة على وجودها في دارفور حتى اليوم.
-قالون.. قراءة أهل المغرب العربي
يُعد أبو موسى عيسى بن ميناء بن وردان بن عيسى الزرقي، المعروف بلقب قالون، من كبار قرّاء المدينة المنورة في زمانه، وأطلق عليه هذا اللقب شيخه الإمام نافع، حيث إن "قالون" كلمة ذات أصل رومي تعني "الجيد"، وسُمِّي بها نظرًا لإتقانه وجودة قراءته.
وكان قالون عالمًا بارعًا في علم النحو والقراءات، وأخذ الرواية عن الإمام نافع عن طريق العرض والسماع المباشر، ولم يزل ملازمًا له حتى أصبح ماهرًا ومتقنًا لهذه القراءة، وتتلمذ الإمام نافع بدوره على أيدي سبعين من التابعين، من بينهم كبار قرّاء المدينة منهم أبو جعفر يزيد بن القعقاع، شيبة بن نصاح، عبدالرحمن بن هرمز الأعرج، وأبو جعفر قرأ على عبدالله بن عياش، عب الله بن عباس، أبي هريرة، وهؤلاء قرأوا على أُبَيّ بن كعب، وابن عباس وأبو هريرة قرأوا على زيد بن ثابت، وزيد وأُبَيّ قرأ على النبي محمد، وتُعد رواية قالون عن نافع من الروايات القرآنية المتواترة المشهورة، واهتم بها القرّاء وأثبتوها في مؤلفاتهم، بل كانت أول رواية تُذكر في كتب القراءات منذ بداية التأليف حتى اليوم، وذلك تعظيمًا لمكانة المدينة النبوية وتبركًا بها، وتكريمًا لراويها وقارئها المدنيين، كما أنها الرواية القرآنية الرسمية في ليبيا، وأغلب مناطق تونس وشرق الجزائر.
-قنبل عن ابن كثير
أكد الدكتور أسامة الحديدي، إمام وخطيب مسجد الحسين، أن قراءة قنبل عن ابن كثير التي صلّى بها في صلاة التراويح بالجامع الأزهر تأتي في إطار إحياء القراءات القرآنية المتواترة، والتي تعكس ثراء النص القرآني وتنوع أدائه وفق ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقال الحديدي، في تصريحات لـ"الشروق"، إن الإمام قنبل هو محمد بن عبدالرحمن بن خالد "195 - 291 هـ"، وكان من أئمة قراءة القرآن الذين انتهت إليهم مشيخة الإقراء بالحجاز، حيث رحل إليه الطلاب من الأقطار المختلفة، وكان من أجلّ رواة الإمام ابن كثير وأوثقهم وأعدلهم، لكنه جاء بعد الإمام البزي في السند، إذ كان البزي أعلى منه في الرواية، وفق ما ذكره العلماء.
وأضاف الحديدي أن الإمام قنبل تولّى منصب الشرطة بمكة في زمانه، حيث لم يكن يتولّى هذا المنصب إلا رجل من أهل الفضل والصلاح، ليكون حُكمه في الحدود والأحكام على صواب.
وأشار الإمام الذهبي إلى أن ولايته لهذا المنصب كانت في منتصف عمره وحمدت مسيرته فيها.
وتُعتبر قراءة ابن كثير، بروايتي البزي وقنبل، من القراءات المشهورة والمعتمدة في العالم الإسلامي، ومع ذلك، فإن انتشارها الجغرافي محدود مقارنة ببعض القراءات الأخرى، وتُقرأ هذه الرواية بشكل رئيسي في مناطق محددة من اليمن والسودان، حيث يحرص بعض القراء على تعليمها وتلاوتها في المحافل القرآنية، بحسب ما ذكره مركز تفسير للدراسات القرآنية.