مع تفكك التحالف الغربي بسبب السياسات غير المتوقعة للولايات المتحدة، وتقديم الصين نفسها كنموذج للاستقرار، سيحدد واقع أكثر تعقيدا وتداخلا ملامح الأعوام القادمة في الحوكمة العالمية، وفقا للدكتور سمير بوري، مدير مركز الحوكمة العالمي والأمن في المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتام هاوس).
ويقول بوري في تحليل نشره المعهد إن شهر سبتمبر الجاري يشهد عرض رؤى متناقضة تماما للنظام العالمي والحوكمة العالمية بشكل واضح وذلك خلال اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون بلس والجمعية العامة للأمم المتحدة.
ويرى بوري أنه بدلا من انتصار تام لإحدى الرؤيتين على الأخرى، ستكون النتيجة المحتملة على المدى الطويل واقعا متداخلا أكثر تعقيدا. وتكافح هياكل الحوكمة العالمية الراسخة، مثل الأمم المتحدة، للتكيف مع واقع متعدد الأقطاب بشكل أكبر. وسوف يكون إرساء نظام عالمي مستقبلي أكثر استقرارا عملا تحققه الأجيال.
وقد جاءت استضافة الصين لاجتماع منظمة شنغهاي للتعاون بلس في مدينة تيانجين في الأول من سبتمبر الجاري لتوضح هذه النقاط. وحضر الاجتماع 20 من قادة الدول من مختلف أنحاء العالم غير الغربي، مما أتاح للرئيس الصيني شي جين بينج تقديم الصين كنموذج للاستقرار. ويأتي هذا في وقت تتناقض فيه السياسة الخارجية الأمريكية تماما مع هذا النموذج، في ظل سياسات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التجارية العدائية، بما في ذلك تجاه أقرب حلفائها، وانسحابها من بعض المؤسسات متعددة الأطراف.
ومع تنازل الولايات المتحدة عن سمات مهمة من دورها القيادي في العالم للصين، تركز الدولتان أيضا على المنافسة العسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وشهد العرض العسكري الضخم للصين، الذي نظمته مباشرة بعد اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون، الرئيس شي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والكوري الشمالي كيم جونج أون.
وكان الهدف الظاهري من الحدث هو إحياء الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية، لكنه كان في الأساس بمثابة عرض مخيف للقوة العسكرية المتنامية لبكين.
في غضون ذلك، تتخذ الولايات المتحدة الخطوات التالية في توجهها الاستراتيجي نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال تقليص بعض المساعدات الأمنية لدول أوروبا الشرقية، وهو ما يحول عبء ردع روسيا بشكل أسرع إلى الدول الأوروبية.
واعتبر الدكتور بوري أن القضايا الأمنية ليست الشكل الوحيد للمنافسة الجارية. فقد اعتمد النظام العالمي الذي قادته الولايات المتحدة بعد عام 1945 أيضا على قيادتها الاقتصادية، التي تحقق الاستقرار- والتي تقوضها الآن السياسات الجمركية لإدارة ترامب- والسلطات المعنوية والعملية الناتجة عن مكانتها الرائدة في المؤسسات متعددة الأطراف.
وسيكون هناك عدم توافق واضح مع انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في9 سبتمبر، في ظل سخرية إدارة ترامب الصريحة من الاجتماع. وهناك 180 بندا منفصلا في جدول الأعمال المؤقت للدورة العادية الثمانين للجمعية العامة. وعلى الرغم من أن عددا قليلا فقط يتعلق بشكل خاص بالأراضي الفلسطينية، فإنه سوف يهيمن على المزاج العام حول الجمعية العامة للأمم المتحدة الغضب تجاه حرب إسرائيل المستمرة في قطاع غزة. كما أن تعليق التأشيرات الأمريكية لحاملي جوازات السفر الفلسطينية لن يساعد في تحسين المزاج العام والمواقف تجاه الولايات المتحدة.
وأكد بوري على اتساع الصدوع داخل التحالف الغربي بسبب هذه القضية، حيث أن إدارة ترامب ثابتة في دعمها لاستمرار إسرائيل في الحرب. وفي المقابل، جددت المملكة المتحدة وفرنسا وكندا في يوليو دعواتها لحل الدولتين. ويأتي هذا في أعقاب توجيه العديد من دول الجنوب العالمي انتقادات شديدة لسياسة إسرائيل في غزة منذ فترة، مع تأييد بعضها لقضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي في ديسمبر 2023.
ويرى بوري أن الانطباع الذي يخلقه كل هذا مقلق للغاية: عالم تمزقه المنافسة بين القوى العظمى، وحروب مريرة مستمرة، وهياكل حوكمة عالمية قديمة وراسخة عاجزة عن تقديم ردود فعل فعالة تعكس الرأي العام العالمي.
وتشهد مجالات أخرى من الحوكمة العالمية حالة من التراجع، مثل الأمن. فعلى سبيل المثال، لا توجد معاهدات جديدة للحد من التسلح، للتخفيف من مخاطر عسكرة الفضاء الخارجي أو الأتمتة المتزايدة لأنظمة الأسلحة. في غضون ذلك، تتفكك المعاهدات المتعلقة بالأسلحة الحالية، من الأسلحة النووية إلى الألغام الأرضية، مع انسحاب الدول منها وعدم اتفاقها على شروط جديدة. ويفتح غياب القواعد واللوائح والمعايير الدولية بشأن هذه القضايا الطريق أمام تنافس وانتشار غير مقيد بشكل متزايد، يهدد بمزيد من انعدام الأمن في المستقبل.
وفي ظل هذه الخلفية، من المهم أن الرئيس شي أعلن عن "مبادرة الحوكمة العالمية" الصينية الجديدة في آخر اجتماع لمنظمة شنغهاي للتعاون. وفي حين أن التفاصيل كانت بسيطة، أوضح وزير الخارجية الصيني وانج يي أن مبادرة الحوكمة العالمية "مصممة لدعم الدور المركزي للأمم المتحدة بقوة في الشؤون الدولية".
ويقول بوري إنه من المرجح أن يحدد هذا شكل مشاركة الصين في الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام، حيث تأمل بكين في تقديم نفسها كقوة عالمية متنامية لتحقيق الاستقرار، مقابل سياسات الولايات المتحدة الخارجية والتجارية التي لا يمكن التنبؤ بها.
وينبغي تفسير هذا على أنه مزيج بين القديم والجديد: تواصل الصين العمل من خلال مزيج من المنصات الراسخة متعددة الأطراف، بينما تقدم عروضا جديدة خاصة بها - مثل اقتراح شي بإنشاء بنك تنمية صيني لأعضاء منظمة شنغهاي للتعاون للتخفيف من مخاطر الدولار الأمريكي التي يواجهونها.
وأشار إلى أن لغة دعم المساواة في السيادة رسالة مقنعة لعدد متزايد من الدول، حتى إذا كانت الصين تستخدمها بشكل رئيسي لتعزيز مكانتها في قمة الهرم الدولي.
وتعد الذكرى السنوية الثمانون لنهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة بمثابة تذكير بأن التحديات الأمنية وعروض الحوكمة العالمية متشابكة بطرق مهمة.
فبعد عام 1945، حصلت الدول المستعمرة سابقا في جميع أنحاء الجنوب العالمي على الاستقلال، في حين وفرت منظومة الأمم المتحدة والمؤسسات المرتبطة بها الأساس لنظام عالمي أكثر استقرارا وقابلية للتنبؤ. وبعد عام 1991، وبعد استقلال دول الاتحاد السوفيتي السابق، أصبح الطابع الغربي، وتحديدا الطابع الأمريكي، للحوكمة العالمية والعولمة، سمات للنظام العالمي لا تواجه تحديات.
واختتم بوري تحليله بالقول إن هذه العصور انتهت الآن تماما. وقد بدأت للتو الرحلة نحو واقع أكثر تعقيدا وتداخلا، حيث تتعايش رؤى وعروض مختلفة للحوكمة العالمية، وتندمج في بعض القضايا. ويتطلب التعامل معها تفكيرا جديدا ومبتكرا يظهر انفتاحا على التغيير. ولكنه يحتاج أيضا فهما قويا للهياكل القائمة التي يجب الحفاظ عليها.