اكتمل الوحي الإلهي، بقول الله -تعالى- في سورة المائدة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، في يوم عرفة من حجة الوداع للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون الإسلام دينًا مكتمل الأركان مستندًا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وبعد انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، حمل العلماء على عاتقهم مسئولية فهم الدين واستنباط الأحكام، فكان الاجتهاد بابًا واسعًا أثرى الأمة بعلوم شتى، وعلى مدار أكثر من 1000 عام ظهر تراث إسلامي زاخرا بالكتب في التفسير والحديث والسيرة والفقه وغيرها من العلوم الشرعية.
وفي هذه السلسلة، نطوف معًا بين رفوف "المكتبة الإسلامية"، نستكشف في كل حلقة كتابًا أثرى الفكر الإسلامي، ونتأمل في معانيه وأثره في مسيرة العلم والدين.
الحلقة الحادية عشر..
تحتل مقاصد الشريعة الإسلامية مكانة محورية في فهم الأحكام الشرعية، حيث تساعد على استيعاب روح التشريع الإسلامي وأهدافه الكبرى، ومن أبرز العلماء الذين أسسوا لهذا العلم الإمام الشاطبي، وذلك من خلال كتابه الفريد "الموافقات"، الذي يعد من أهم المراجع في الفقه الإسلامي وأصوله.
-من هو الإمام الشاطبي؟
هو الإمام إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، المكنّى بأبي إسـحق الشاطبي، نسبة إلى شاطبة، وهي إحدى مدن غرناطة ببلاد الأندلس، حيث وُلد في القرن الثامن الهجري.
ونشأ الشاطبي في مدينة غرناطة، وتلقى العلم فيها منذ صغر، ولم يُنقل عنه أنه خرج منها لطلب العلم، بل لازمها طيلة حياته حتى توفي.
برع في علوم العربية وعلوم الشريعة، مما مكّنه من استكشاف أسرارها، وإبراز مقاصدها، وضبط قواعدها، وربط فروعها بأصولها، بحسب دراسة عنه نشرتها جامعة الأزهر في غزة.
وكان الإمام الشاطبي من ألمع علماء عصره في الأندلس، حيث تبوأ مكانة علمية مرموقة، ونال تقدير العلماء، ومن أقوالهم فيه:
قال تلميذه أبو عبدالله محمد بن محمد بن علي المجاري الأندلسي: "الشيخ الإمام العلامة الشهير نسيج وحده وفريد عصره."
كما قال الإمام ابن مرزوق الحفيد: "الشيخ الأستاذ الفقيه الإمام المحقق العلامة الصالح".
وقال أحمد بابا السوداني في ترجمته للإمام: "الإمام العلامة، المحقق، القدوة، الحافظ، الجليل، والمجتهد، كان أصوليًا، مفسرًا، فقيهًا، محدثًا، لغويًا، بيانيًا، نظارًا، ثبتًا، ورعًا، صالحًا، زاهدًا، سنيًا، إمامًا، مطلقًا، بحاثًا، مدققًا، جدليًا، وبارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات وأكابر الأئمة المتفننين الثقات".
-لماذا ألف الشاطبي الموافقات؟
رأى الإمام الشاطبي أن كثيرًا من الفقهاء اقتصروا على ظواهر النصوص دون الالتفات إلى مقاصد التشريع، فوضع كتاب "الموافقات" ليؤكد أن الأحكام الإسلامية تهدف إلى تحقيق مصالح العباد، وأن الشريعة ليست مجرد نصوص جامدة، بل لها روح ومقصد يجب فهمه.
- ماذا تضمن الكتاب؟
ومن بين ما قاله الإمام الشاطبي في كتابه: "ليس كل ما يُعلم مما هو حقٌّ يُطلب نشره وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص.. وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعِلما ما تكلم فيها ولا حَدث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عَمل وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون".
وتطرق أيضا كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء، فقد بين مساق القرآن آدابا استقرئت منه، وإن لم ينص عليها بالعبارة، فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير، فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن في الغالب إلا بـ"يا" المشيرة إلى بعد المنادي لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء، فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة: منها: إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى، وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه، فدل على استشعار الراغب هذا المعنى، إذ لم يأت في الغالب إلا في "ربنا لا تؤاخذنا" و"ربنا تقبل منا" في سورة البقرة.
وغدا نلتقي مع كتاب جديد من المكتبة الإسلامية..
اقرأ أيضا
المكتبة الإسلامية (10).. دلائل النبوة للبيهقي: دفاع علمي عن معجزات الرسول