قصة جديدة للكاتب الكبير نبيل نعوم.. خطابات غرامية - بوابة الشروق
الأحد 14 سبتمبر 2025 8:00 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

قصة جديدة للكاتب الكبير نبيل نعوم.. خطابات غرامية

نبيل نعوم
نبيل نعوم

نشر في: الجمعة 12 سبتمبر 2025 - 7:56 م | آخر تحديث: الجمعة 12 سبتمبر 2025 - 7:56 م

أخبرنى صديق ثرى أن امرأة مسنة من معارفه أو أقاربه تود الحصول على خطابات غرامية مقابل ثمن مجز، ولكونى وقتها مفلسا تماما، وغير قادر على نشر أى من كتاباتى، وافقت.

حسب الموعد المحدد وبشقته، قدمنى لها:

«أقدم لك إميل موافى، أحد الكتاب المشهورين، سكت قليلا ثم استطرد فى محاولة لرفع سعرى وإن كان بسبب رقة كتاباته ما زال من المغمورين، ولكنى أعترف بأنى قرأت له أجمل ما كُتب عن الحب والهوى».

نظرت نحوى المرأة بنصف عين، أو أقصى ما استطاع جفنها الأيمن من الارتفاع.

وددت لو أنها لم تسمع ما قال، أو لم ترنى، ولكن على غير ما تمنيت، ابتسمت ابتسامة هينة ومدت لى أقْدَم يد مازالت حية. لكزنى صديقى، ففهمت وقبلت يدها.

أكمل صديقى التعارف: «مدام إنصاف هانم الزارعى».

دعتنى المرأة للجلوس، فأخذت مكانى بحرص بالقرب منها، وأنا أحاول موازنة الأمور. هل أُقدم على تلك المهمة أم أكتفى باللقاء.

«إميل بك»، قطعت علىّ المرأة حبل أفكارى وهى تنظرنى حينها مليا، بعد أن فتحت عينها اليسرى التى كانت مغلقة حتى تلك اللحظة، وظهر لى بريق صعب علىّ تفسير مصدره.

«لقد حدثنى عنك إسماعيل بك، وعن مدى دقة مشاعرك، وهذا ما أفتقده فى كتابات العصر».

بلباقته المعهودة وجه صديقى لها الكلام بنبرة إعجاب:

«إنصاف هانم، إميل بك لا يكتب، بل يحيى الكلمات».

أعجبنى وصف إسماعيل، وأحسست بالخجل، وخاصة أنه لم يقرأ لى سوى قصة أو قصتين من قصصى الأولى والتى ربما كانت تتميز ببعض الإشارات الواضحة أحيانا والمستترة غالبا، إلا أنها لم تكن بالقطع حسية، إلى جانب أنها كُتبت منذ سنوات عديدة وبالنسبة لى كانت تاريخا قديما، إذ بعد كل محاولاتى المستمرة فى الكتابة، كنت قد اكتفيت بالسرد التاريخى أو الحكايات البوليسية والتى أيضا لم تلق أى نجاح يُذكر.

وقبل أن أغرق ثانية فى بحر استنباطاتى وذكرياتى، أعادتنى إنصاف هانم إلى الغرض من المقابلة:

«متى تود أن تمتعنى بخطاباتك؟» كانت صادقة وصريحة، ولم تدع لى فرصة للتردد.

«فى أول فرصة يا إنصاف هانم».

«وهذا مبلغ تحت الحساب».

كان خجلى شديدا وأنا أتناول الظرف الذى كانت قد أعدته من قبل بحقيبة يدها المصنوعة من جلد الثعبان.

«ولكن شرطى هو الاسترسال يا إميل بك. لا تحد من خيالك أو تخجل، فأنا أعشق الكتابة الصريحة».

ابتسمت ثانية وقد أغلقت عينيها ثم أمرتنى:

«سأنتظر منك خطابا بالبريد كل أسبوع، وهذا هو عنوانى». ناولتنى ورقة مكتوبا عليها بخط جميل اسمها وعنوانها، وقبل أن تنتهى المقابلة طلبت منى عدم عنونة الخطابات باسمها، بل الاكتفاء بافتتاح كل خطاب بإحدى صفات الحبيب.

****

مرت بى فترة طويلة وأنا أرسل كل أسبوع خطابا إلى إنصاف هانم، وحسب الاتفاق كانت ترسل لى مع إسماعيل المبلغ المتفق عليه بلا أى تأخير.

فى أول الأمر كان من الصعب علىّ الكتابة. لم تكن بالمهمة السهلة، وفى عدة مرات كدت أكف عن إرسال تلك الخطابات بسبب الفكرة التى وراء كتابتها، وتأنيب ضميرى لقبولى مثل ذلك العرض، وإحساسى أحيانا بالذنب بسبب استغلالى لمشاعر تلك المرأة المسنة أو تلبية مطلبها الغريب. كان ذلك الإحساس ينغص علىّ كثيرا من وقتى، ولكن فى النهاية أخذت أقنع نفسى بأنى كاتب، وإذا كانت الكتابة هى اختيارى، فعل ذلك هو كتابى الأوحد المقروء بصدق وبحرارة، وأنه ربما بذلك العمل قد آخذ - فيما بعد بالطبع - مكانى بين الكُتاب المشهورين. وهكذا وبالتدريج وجدت نفسى أجد متعة فى إرسال تلك الخطابات، بل أصبحت أنتظر بفارغ الصبر مرور أيام الأسبوع حتى يأتى اليوم المحدد الذى آخذ فيه ما كتبت لأضعه داخل الظرف الذى أخذت أتفنن فى تجميله من الخارج، وكم من مرة قطرت عليه قطرة من أنواع زيوت الروائح التى اشتريتها الواحد بعد الآخر. البنفسج والألف زهرة واللوتس والمسك والعنبر فى الخريف والشتاء. أما فى الربيع فكانت روائح زهر البرتقال والفل والياسمين تعبق خطاباتى، وكم من مرة فى الصيف قطرت قطرة من رحيق المانجو أو الموز.

وكما تفتقت مخيلتى عن أجمل أنواع الروائح المناسبة، كذلك التهبت كلماتى بمرور الوقت حتى لم يعد لى شاغل إلا مناجاة الحبيب، فمرة أدعوه عينىّ ومرة شفتىّ ومرة أكنيه بالندى ومرة ألغزه بالشجن.

إلى أن كان الخطاب الأول والأخير الذى وصلنى منها، والذى أخبرتنى فيه بأنها على فراش الموت، وتسألنى بوصول ذلك الخطاب أن أكف عن إرسال تلك الخطابات، وأفهمتنى أيضا أنها سترسل لى عن طريق صديقى مبلغا من المال يكفينى لفترة حتى أجد وسيلة أخرى أتعيش من ورائها.

لا أدرى لمَ حينها خشيت الموت ورغبت فى الفهم والمعرفة، وتمنيت فوق كل شىء أن أراها.

أسرعت إلى منزلها وطرقت بابها فى متأخر ليلة صيف. فتح لى الباب رجل متحكم فى قدراته. نظر إلىّ بتمعن ثم سألنى من أكون؟ وماذا أريد؟ خفت أن أتكلم. تكلم هو وسألنى إن كنت أنا هو؟ قلت نعم، إميل موافى. كاد يغلق الباب عندما سمعت صوتها من الداخل تتساءل من بالباب؟ صرخت بأنه أنا. سمح لى الرجل بالدخول على مضض وقادنى إلى حجرتها. كانت أكثر عجزا عن أى مخلوق بشرى. وقبل أن أتمكن من جمع أشتات انتباهى، اندفعت نحوى امرأة شابة لم أر فى حياتى من هى أكثر منها أنوثة وفتنة، وإن رأيت فى عينيها ما قد يُحسب بعلامات الجنون. دفعت باب الغرفة المغلق، وقد سمعت اسمى تردده الجدران. أخذتنى بين ذراعيها وصارت تنادينى بكل أسماء الأحبة التى ذكرتها فى خطاباتى من العاشق والواله والمعتوه. ظلت تضمنى إليها بقوة. كانت عفية وأحسست بآلام تصيب ضلوعى وصدرى حتى خفت على حياتى من شدة هيامها. صارت تتحسس وجهى وتشم رائحتى، وكلما حاولت التخلص من قبضتها سمعتها تهمهم بكلمات محمومة، وقد أخذت تقتلع منى ما حدثتها عنه لسنوات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك