- الكتاب تصدَّر خلال أسبوع قائمة أمازون لأكثر الكتب مبيعًا فى فئة الإصدارات الجديدة المتعلقة بالسيَر الذاتية للعرب والشرق الأوسط
صدر فى الثالث من شهر يونيو الجارى عن دار نشر «سيمون آند تشوستر» مذكرات للشاعرة والروائية والمحللة النفسية وأستاذة علم النفس فى جامعة نيويورك الأمريكية من أصل فلسطينى، حلا عليان، بعنوان: «سأخبرك عندما أعود إلى البيت»، تحدثت فيها بصراحة عن شعورها إزاء هويتها الفلسطينية والانتهاكات التى تجرى على الساحة الآن فى حق بلدها الأم، وتناولت أيضًا مواضيع شخصية شتى؛ ومنها: المنفى، والأمومة، وتجربة الحمل البديل، وأهمية الذاكرة، والمحاولات شبه المستحيلة لاستعادة الماضى وفهمه.
فى البداية، إشارة إلى قصيدة «غزل الساعات»، المنشورة للكاتبة عام 2024، والتى قالت عبرها: «إن الرغبة فى شىء ما لها ثمن؛ والثمن هو كينونتك ذاتها التى تصير إليها بعد أن تحصل على ذلك الشىء»، وتجسد تلك العبارة لمحة عابرة داخل عقل امرأة، تبلغ من العمر 38 عامًا، دفعت ثمنًا باهظًا لرغباتها، ولكنها خرجت من التجربة سالمة بعد أن عاشت ما قد يبدو كأنه حيوات متعددة مقارنة بغيرها.
ووُلدت «عليان» فى الولايات المتحدة، ورغم أنها لم تعش يومًا فى فلسطين، إلا أنها قالت فى مطلع مذكراتها: «لقد كنت دائمًا فلسطينية منذ الولادة؛ وكأن الأمر كان مكتوبًا على جسدى، وبرغم أنى ارتحلت فى مختلف بقاع العالم، كلبنان، والكويت، وأكلاهوما، إلا أننى ظللت قلبًا وقالبًا ابنة رجل فلسطينى ولد لأمرأة فلسطينية».
ونتعرف من خلال صفحات الكتاب - الذى تصدر قائمة أمازون لأكثر الكتب مبيعًا فى فئة الإصدارات الجديدة المتعلقة بالسير الذاتية للعرب والشرق الأوسط - أن أجداد المؤلفة - من طرف والدها - طُردا من قريتىّ العراق سويدان والمجدل فى عام 1948، وهما قريتان فلسطينيتان تعتبران اليوم جزءًا من مدينة عسقلان فى إسرائيل، ثم انتقل والدها إلى الكويت فى عام 1958 حيث التقى بوالدتها، ثم حين غزا صدام حسين الكويت عام 1990، اضطروا مرة أخرى للرحيل، هذه القصة المستمرة من التنقل القسرى هى تجربة شائعة لملايين الفلسطينيين، ولذا فإن الكتاب يستكشف الصدمة النفسية للأجيال الناتجة عن التهجير، كما عاشتها عائلة «عليان».
وصدر للمؤلفة من قبل روايتىّ «مدينة مشعلى الحرائق» و«بيوت الملح»، بالإضافة إلى العديد من قصائدها الشعرية من ضمن خمس مجموعات، وجميعها تتناول إرث الحرب فى الشرق الأوسط. لكن هذه المذكرات هى الأكثر خصوصية واعترافًا بالذات.
وتحدثت المؤلفة عن عدة تجارب شخصية فى الكتاب ومنها تجربتها مع جسدها الخاص؛ فجسدها يحتل مركز الحكاية، ورحمها يستهوى جانبها الشعرى، ولكنه لا يؤدى الغرض الذى خُلق من أجله؛ فبعد خمس محاولات حمل فاشلة، بينها حمل خارج الرحم، قررت اللجوء إلى الحمل البديل، وهو القرار الذى قادها إلى تأليف هذه المذكرات.
ويتألف الكتاب من تسعة فصول، تعكس تسعة أشهر من الانتظار لولادة طفلتها البيولوجية، التى كانت تنمو فى جسد امرأة أخرى، على بعد آلاف الأميال فى كندا، كان ذلك وقتًا شعرت فيه بالانفصال عن جسدها، غير قادرة على تحقيق أكثر شىء رغبت فيه فى العالم.
وقالت المؤلفة إن تلك التجربة كانت دافعها أن تكتب، أن تجمع شظايا حياتها المختلفة بما فيها حكايات من سبقوها من أسلافها فى فلسطين؛ ولذا فإن كتاب مذكراتها فى مجمله هو قصة عن الحرب والفقد؛ فقدان الوطن، والأصدقاء، والأحباء، وحتى الزواج، وانعكست رحلتها مع الخصوبة هذه على القضية الفلسطينية ككل؛ فرحم لا يستطيع حمل جنين حتى اكتمال المدة هو، بشكل ما، جسد فى حرب مع ذاته، وبذلك غدت حكايتها عن الحمل البديل رمزًا للمنفى.
وصدرت مذكراتها الجديدة فى لحظة شديدة التوتر بالنسبة لفلسطين، حيث لا يموت الفلسطينيون فى غزة من الجوع والقصف فقط، بل يعيشون أيضًا تحت تهديد مستمر بالتشريد والطرد فيما يبدو وكأنه تكرار لا ينتهى للتاريخ.
وعن هويتها المزدوجة، قالت المؤلفة عبر المذكرات: «كيف تشرح للعالم أنك فلسطينى وأمريكى فى الوقت نفسه؟ يجب عليك إنكار الأول لإثبات أنك تنتمى إلى الثانى، ولكن - فى حقيقة الأمر- أنت موجود فى كلا الهويتين كأنك شبح، لا تنتمى إلى أى منهما».
وعبر مقابلة صحافية لها نشرتها صحيفة الجارديان، قالت «عليان» إنه رغم إدراكها الكامل لتواطؤ الولايات المتحدة فى ما يحدث بغزة، إلا أنها لا تزال تُفاجأ بكل مرة يُرفع فيها «الفيتو» فى مجلس الأمن، وكل مشروع قانون جديد لإرسال المليارات إلى إسرائيل، ولكن أكثر ما يصدمها من رد الفعل العالمى هو الصمت والكراهية واللامبالاة، وفيما يبدو فى بعض الأحيان الرغبة الحقيقية فى موت المزيد من الفلسطينيين.
ووسط أكوام الرماد وأنهار الدماء، قالت المؤلفة إن هناك محوًا آخر يجرى الآن على قدم وساق بالتزامن مع مخططات الإبادة الجماعية؛ ألا وهو محو قصص الفلسطينيين، وهى تأمل أن يساهم كتابها - ولو بطريقة متواضعة - فى عملية إنقاذ الذاكرة والثقافة الفلسطينية من معولات النسيان.
وقالت عبر المقابلة إنها تأثرت تأثرًا بالغًا حين انتشرت صورة على نطاق واسع تُظهر سبورة بيضاء فى مستشفى ممتلئ بضحايا القصف فى غزة وذلك بعد أسابيع قليلة من 7 أكتوبر الماضى وقد مُسحت منها أسماء العمليات المقررة، واستُبدلت بعبارة كتبها الطبيب محمود أبو نجيلة «من بقى حتى النهاية سيروى ما حدث. لقد فعلنا كل ما بوسعنا. تذكرونا».
وبسؤالها عن ماذا يمكننا أن نفعل فى وجه ما يحدث فى غزة؟ قالت «عليان» إن الشهادة واجبة وهى الحد الأدنى، وأضافت: «لا أحد يمكنه أن يقول الآن إنه لا يعلم ما الذى يحدث فى غزة، لابد للعالم أن يكون شاهدًا فصيحًا لا يعرف الخوف على ما يحدث، فالشخص الذى يرى ويصمت أو يدير وجهه بلا نفع بالنسبة للقضية الفلسطينية».
وتابعت: «حين تبيد الأطفال، فأنت تقتل القصة قبل أن تبدأ أصلًا، وحين تتعدى على المسنين، فأنت تمحو التاريخ، والذاكرة، والأرشيف الحضارى، وعندما تدمر الجامعات، وتفجّر المكتبات، وتتخلص من الشعراء، والصحفيين، وكل من يحمل ذاكرة جماعية، فأنت تعترف ضمنيًا بأهمية وجدوى تلك القصص، وبأن الذاكرة هى كل شىء».
وقالت المؤلفة إن ما تبقى لهم الآن كشعب فلسطينى هى الشظايا من مخلفات الحرب، ولذا يجب عليهم أن يفعلوا شيئًا ما بميراثهم هذا وإن لم يكن سوى حفنة من الشظايا؛ فوفقًا للمؤلفة، يجب إعادة تشكيل تلك الشظايا تارة وتقديمها للعالم كما هى تارة أخرى.
وقد فعلت ذلك الأمر فى كتاباتها الخاصة؛ فنجد أنها فى بعض قصائدها، تحجب بعض الكلمات وتسلّط الضوء على غيرها، وتترك البعض الآخر باهتًا، أما المذكرات الجديدة، فهى مجموعة مشاهد متناثرة عبر الزمن، بأسلوب كتابة مضطرب يهدف إلى إدخال القارئ إلى أحلك زوايا التجربة، وكأنه داخل وعى الكاتبة نفسها.
وتعود المذكرات إلى قصتين أساسيتين فى الأدبين الشرقى والغربى؛ وهما «ألف ليلة وليلة» و«الأوديسة» لهوميروس؛ حيث يبدو انجذاب «عليان» واضحًا إلى شخصية شهرزاد التى أنقذت حياتها عبر سرد القصص المتتابعة للملك كل ليلة، وهى ترى فى هذه القصص نماذج للصبر الجميل، ولسرديات البقاء رغم تهديدات الفناء والذبح كل ليلة.
وقالت «عليان» إنها تظن أن شهرزاد كانت أول معالجة نفسية فى التاريخ، لأنها حولت «المرأة المستمعة السلبية إلى راوية محترفة للقصص، والتى صارت رواياتها وكأنها دواء»، ولكن الحقيقة القاسية، وهى أن ما يحدث الآن، وما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين فى غزة، يتحدى التعبير، بل ويتحدى إمكانية الشفاء من خلال السرد والتذكر.
وفى الختام، أشارت «عليان» إلى أنها تدرك بصفتها معالجة نفسية أن التعافى بعد الصدمة لا يمكن أن يحدث إلا بعد انتهاء الصدمة نفسها. ومعه، يجب أن يكون هناك حساب حقيقى، ليس فقط مع إسرائيل، بل أيضًا مع من دعم أفعالها، ومع كل من رأى وصمت.
جدير بالذكر أن الشاعرة الفلسطينية ــ الأمريكية، حلا عليان، حصلت على عدة جوائز أدبية مرموقة تقديرًا لإسهاماتها فى الأدب والشعر، ومنها جائزة دايتون للسلام الأدبى التى فازت بها عام 2018 عن روايتها الأولى «بيوت الملح»، التى تناولت موضوع الشتات الفلسطينى وتأثير الحروب على العائلات، وجائزة الكتاب العربى الأمريكى التى فازت بها عام 2013 عن مجموعتها الشعرية «الردهة».