رحل عن عالمنا اليوم الروائي الكبير صنع الله إبراهيم، أحد أبرز الأصوات في الأدب العربي الحديث، عن عمر ناهز 88 عامًا، إثر إصابته بالتهاب رئوي حاد. ترك وراءه إرثًا أدبيًا فريدًا جمع بين السرد القصصي والوثيقة التاريخية، متكئًا على خلفيته الصحفية التي منحت نصوصه دقة وعمقًا.
ظلّ طوال مسيرته منحازًا للفقراء والطبقة العاملة، جريئًا في نقد السلطة وفضح الفساد، ورافعًا لواء الحرية والعدالة بلا مساومة، ما جعله في مواجهة دائمة مع الأنظمة الحاكمة. وفي السطور التالية، نقترب من المحطات الاجتماعية والشخصية التي صاغت تجربة هذا الكاتب الاستثنائي وجعلت من سيرته جزءًا من ذاكرة الثقافة العربية.
يصبح يساريًا بسبب والدته
ولد صنع الله لوالد عمل موظفًا في الحكومة وينتمي للطبقة البرجوازية، أما والدته فكانت تنتمي إلى طبقة فقيرة جدًا، وعملت كممرضة لزوجة أبيه السابقة قبل الزواج، ثم تزوجها والده بعد وفاة زوجته الأولى.
لم يرحب أهل والده بهذه الزيجة لانتماء والدته إلى طبقة اجتماعية فقيرة، بينما انتمى أهل والده إلى الطبقة البرجوازية. تعاملوا مع صنع الله بتعالٍ، ما تسبب في إحساسه بالظلم الطبقي. كانت هذه لحظة فارقة في حياته، إذ بدأ بعدها يشعر بانحياز كبير إلى الطبقات الفقيرة ورغبة في الدفاع عن حقوقهم والتحدث باسمهم.
ساهم أيضًا والد صنع الله في تغذية ميوله اليسارية والأدبية، فقد كان حكّاءً محبًا للقراءة ومؤمنًا بقضايا العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى مشاركته في ثورة 1919.
سرد الوقائع بدلًا من تجسيد الأماكن
على عكس الخط الأدبي الذي انتهجه الأديب العالمي نجيب محفوظ، والذي اهتم بتجسيد الحياة داخل الحارة المصرية، اتخذ صنع الله إبراهيم مسارًا مختلفًا. فعلى الرغم من نشأته في حي العباسية الشعبي، فإنه اهتم بسرد الوقائع والأحداث المرتبطة بالنظام السياسي والاجتماعي في مصر، أكثر من تركيزه على وصف الأماكن.
ميلاد كاتب خلف القضبان
دفع صنع الله إبراهيم ثمنًا باهظًا لميوله اليسارية، ودخل السجن أكثر من مرة، لكن أطول مدة قضاها كانت خمس سنوات، من 1959 حتى 1964، بتهمة قلب نظام الحكم وتكدير السلم العام.
ذكر أنه عوقب فقط بسبب انحيازه للفقراء والمهمشين، مضيفًا أنه كان يسعى إلى دفعهم للمشاركة الفاعلة في الحكم بشكل سلمي، ليكونوا جزءًا من المعادلة السياسية، مما يفرض على السلطة الحاكمة الاهتمام بهم.
وأشار إلى أن السجن وفّر له فرصة كبيرة للتفكير والتأمل، حيث التقى أنماطًا مختلفة من البشر من طبقات اجتماعية متعددة، وكان كل شخص يحكي تجربته بالتفصيل لغياب أدوات الترفيه مثل الراديو أو الصحف. أوضح أنه اختزن جميع هذه التجارب، ورغب في نقلها للناس، لتبدأ رحلته مع الكتابة.
"يوميات الواحات" تخرج من رحم السجن
حرص صنع الله أثناء وجوده في السجن على تسجيل يومياته بكل تفاصيلها، متضمنة أفكاره وقراءاته وخواطره وتحليله للشخصيات التي التقاها. ومن هذه اليوميات وُلد أول إنتاجه الأدبي، رواية "يوميات الواحات"، التي تنتمي إلى أدب السجون، وتحكي تجارب الأفراد الشخصية داخل المعتقل، والأسباب التي دفعته إلى السجن.
الصدام مع عبد الناصر
ذكر صنع الله أن جوهر خلافه مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان عدم تقبّل الأخير للمعارضة وتكميم الأفواه. وأوضح أن عبد الناصر، رغم تقدير العرب والعالم لإنجازاته، كان شديد الحساسية للنقد، ولا يعترف بالخطأ، ما أدى إلى سجن كثير من معارضيه.
يحتفي بالسد العالي وينتقده في آن واحد
وثّق صنع الله ملحمة بناء السد العالي عبر رواية "إنسان السد العالي" (1968)، التي سجل فيها إعجابه بحماس العامل المصري وصبره خلال أعمال البناء، وصوّر الحقبة التاريخية التي شهدت رفض البنك الدولي تمويل المشروع، ما دفع مصر للتقارب مع الاتحاد السوفييتي.
لكن في رواية "نجمة أغسطس"، انتقد النظام السياسي الذي اتخذ قرار بناء السد، واعتبره نظامًا شموليًا يقوّض الإنسان المصري ويهمشه. كتب الرواية في القاهرة وبيروت وبرلين على مدار سبع سنوات.
"67" تنشر بعد 40 عامًا من النكسة
كتب صنع الله رواية "67" في لبنان عام 1968، ممهّدًا بها لهزيمة يونيو 1967 عبر رصد النظام السياسي وشخصيات تعكس اللامبالاة والاضطراب واليأس في تلك الفترة. رفض نشر الرواية في السبعينيات رغم العروض، لأنه ظل مؤمنًا بالتجربة الناصرية رغم انتقاداته، إلى أن نشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب في يوليو 2015.
"أمريكانلي" أو "أمري كان لي"
تناولت رواية "أمريكانلي" الهيمنة الأمريكية على مصر والعالم، عبر شخصية زهدي، أستاذ جامعي متقاعد يسافر إلى الولايات المتحدة في برنامج تبادل ثقافي، ويحتك بالمجتمع الأمريكي وشخصيات عربية وأمريكية.
يحمل عنوان الرواية دلالتين: الأولى "أمريكانلي" أي "الأمريكي"، والثانية "أمري كان لي"، كناية عن امتلاك مصر لزمام أمورها قبل التبعية لأمريكا.
"اللجنة": رفض للتبعية وسياسة الانفتاح
في رواية "اللجنة"، يعبّر صنع الله عن رفضه لأسلوب إدارة البلاد في عهد السادات، من خلال شخصية بلا اسم تُستدعى لاستجواب غامض، وتُكلّف ببحث عن شركة "كوكاكولا" في إشارة إلى التبعية الاقتصادية والسياسية لأمريكا.
"ذات" تصل إلى الدراما وتثير الجدل في أمريكا
تحولت روايته "ذات" إلى مسلسل عُرض في رمضان 2013، بطولة نيللي كريم وباسم سمرة، وإخراج كاملة أبو ذكري، ووثقت حياة مصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية من السبعينيات حتى الثمانينيات.
ذكر صنع الله أنه ألقى محاضرات في جامعة بيركلي بالولايات المتحدة، وأثناء فعالية للجالية المصرية قرأ مقتطفات من "ذات"، فقاطعه بعض الحضور وطلبوا منه التوقف بدعوى احتوائها على ألفاظ تخدش الحياء.