كان كل شيء ساكنا بمنتصف الليل، في بحر بلا أمواج ولا غيوم، تنعكس صورة النجوم على مياهه الباردة بدرجات حرارة هبطت دون الصفر.
وبينما كان الهدوء يعم السفينة بعد يوم حافل بالاستمتاع بوسائل الترفيه المتنوعة من حمامات سباحة وغرف البخار وطاولات عشاء من بين الأفخم في عصرها، وفجأة يخرج أمام البحارة الساهرين على جسر التيتانيك ذلك الظل العملاق الذي حجب السماء الصافية من خلفه ليقترب بسرعة 41 كيلومتر/الساعة، حينها عرف القبطان أنه الجبل الجليدي، ولكن كان الوقت قد فات لترتطم السفينة بالجبل لتسقط نحو القاع الذي لن تغادره أبدا ولتصبح حكايتها أسطورة تجوب العالم لـ113 عاما مضت على غرق سفينة تيتانيك.
وتسرد جريدة الشروق نبذة عن سفينة تيتانيك الشهيرة في الذكري الـ113 لغرقها، ووردت معلومات عنها في كتب "أصوات أخيرة من تيتانيك" و"9 ساعات للإغاثة" و"تيتانيك ليلة للتذكر".
-من عجائب عصرها
تصاعدت المنافسة على أشدها بين القرنين الـ19 والـ20 بين شركات النقل البحري لتطوير الأسرع والأضخم والأفخم بين السفن العابرة للمحيط الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وفي غضون ذلك نجحت شركة وايت ستارز البريطانية في إطلاق السفينتين تيتانيك وشقيقتها الكبرى أوليمبيك بحجم غير مسبوق يتيح توفير جميع وسائل الرفاهية والمتعة للمسافرين بمختلف طبقاتهم الاجتماعية ليتم الانتهاء من تدشين السفينة "تيتانك" عام 1912.
يدل اسم "تيتانيك" على مواصفاتها من الضخامة غير المسبوقة، حيث يعني الاسم الجبابرة المذكورين في الثقافة الإغريقية، وفي ذلك فإن "تيتانيك" تمتعت بطول يقارب الـ270 مترا وعرض 28 مترا، بينما بلغ ارتفاع السفينة 32 مترا، شملت 10 طوابق مختلفة، ليسير ذلك العملاق البحري بقوة البخار المتعارف عليها في ذلك العصر، عن طريق حرق الفحم في مستودعات ضخمة وتحويل الطاقة لغلايات مخصصة تتواجد أسفل السفينة.
-انطلاق تيتانيك
أنهت تيتانيك بعض التجارب الأولى لها بداية أبريل 1912 استعدادا لحمل أول دفعة ركاب من بريطانيا للولايات المتحدة لتبدأ التحرك من مقرها في بلفاست يوم 10 من أبريل حين تسبب حجمها الضخم في إزاحة سفينتين من أمامها وجرى إنقاذهما لاحقا لتمر السفينة على دولة فرنسا ثم مدينة كوينز تاون البريطانية لتجمع بقية الركاب، ليبلغ العدد الإجمالي قبل مغادرة المياه البريطانية 1320 راكبا، منهم نحو 600 من الدرجة الثالثة، وقرابة الـ300 للدرجة الأولى، و300 للدرجة المتوسطة، بجانب 892 من أفراد طاقم تايتانيك، وكان أغلبهم عمال ومهندسين وطباخين، بينما لم يتجاوز عدد البحارة 5% من الطاقم.
-رحلة من الفخامة والرفاهية
تمتع سائر ركاب تيتانيك بمختلف وسائل الرفاهية، وكان أصحاب الدرجة الأولى أصحاب الحظ الأكبر من وسائل الراحة، حيث تنوعت بين صالات الإسكواش، ومسبح من المياه المالحة بعمق مترين، وحمام تركي يشمل الساونا والجاكوزي، وعدد من المقاهي والمطاعم الفاخرة، وتراوحت أسعار الغرف بالدرجة الأولى بين 30 إسترليني تعادل نحو 3500 جنيه إسترليني حاليا، بينما بلغت أسعار الأجنحة الخاصة برصيف مطل على المحيط ما يعادل 140 ألف إسترليني في الوقت الحالي.
-خطر لا يعرفه الركاب
لم تكن الأوضاع على تيتانيك آمنة تماما، إذ قبيل إبحارها بأيام نشبت حرائق في مستودعات الفحم المخصصة لمحركات السفينة، واستمرت تلك الحرائق تنطفئ وتشتعل حتى تحركت السفينة وسط محاولات لإخماد النيران دون ملاحظة الركاب ما يدور في الطوابق السفلية، ولكن بحلول ثالث أيام إبحار السفينة خمدت النيران تماما، وفي نفس الوقت صادفت تيتانيك جبهة جوية من العواصف والأمواج بارتفاع 8 أقدام لم تلبث أن انتهت وعاد الجو صافي.
-الهدوء الذي يسبق العاصفة
مر ثالث أيام السفينة في المحيط هادئا وباردا يخلوا من الأمواج والضباب، حيث تتضح الرؤيا ويسهل الإبحار بسرعة 41 كيلومتر/الساعة، وهي سرعة تيتانيك القصوى، ولم يعكر هدوء ذلك اليوم سوى عدة رسائل تحذيرية من سفن قريبة بوجود جبل جليدي في المنطقة، ولكن القبطان الستيني إدوارد سميث تجاهل التحذيرات باعتبار أن خطر الجبال الجليدية قد تجاوزته التكنولوجيا ولم يعد تهديدا للسفن.
تبادل البحارة مناوباتهم على جسر السفينة 11 ليلا، ولكن لفت نظر أحدهم بعد نصف ساعة وجود شيئا في الأفق ولكن شدة برودة الطقس جعلت البحار يظنه سرابا كالمعتاد في المياه الباردة، ولكن بعد دقائق ظهر الجبل الجليدي واضحا وكان هدوء المياه يخفيه عن الأنظار مع غياب أي أمواج ترتطم به تعلن عن مكانه، سارع البحار بإخطار بقية الطاقم ليتم إيقاف السفينة ثم محاولة المناورة بها بعيدا عن الجبل، ولكن الوقت كان قد فات ورغم تفادي اصطدام مباشر بالجبل صدم جزءًا من السفينة الجليد.
تسببت الصدمة على الفور في إحداث ثقب قطره متر في قاع السفينة توسع تدريجيا لـ300 قدم ليجتاح 13 طنا من المياه ثلث المواقع السفلية تحت قاع السفينة، وليصبح من المستحيل استمرار طفو تيتانيك.
أما عن الركاب فلم يشعر أصحاب الدرجة الأولى سوى بصوت طفيف ولكن في الدرجة الثالثة بطوابق منخفضة كان إحساس الرجة أقوى، وفق شهادة الناجين.
وبدأ طاقم السفينة في الـ1:05 صباحا إيقاظ الركاب دون إخبارهم بأن تيتانيك تغرق، ولكن تم حشد الركاب عند جسر السفينة بشكل فوضوي نظرا لقلة عدد البحارة المتمرسين في الطاقم، ونظرا لكثرة الركاب من الدرجة الثالثة، وبعد اجتماع الركاب بدأ إنزال قوارب النجاة التي تكفي لحمل نصف أفراد السفينة فقط، ومع ذلك لم يتمكن الطاقم من إنزال الـ20 قاربا، وكانت أولوية صعود القوارب للسيدات والأطفال، وأبحر معظمها حاملين نصف عدد الأفراد المفترض حمله، ما ترك عدد كبير معرضين للغرق.
أرسلت تيتانيك ندائات استغاثة التقطتها سفينة كانت تبعد 93 كيلومترا وتحتاج 4 ساعات للوصول، وسفينة أخرى محاصرة بجبال الجليد كانت هي الأقرب "إس إس كاليفورنيا" على بعد 19 كيلومترا، وهي من حذر تيتانيك قبل ساعات من الجبل الجليدي، ولكن مشغل الراديو لتلك السفينة كان قد ذهب للنوم ولم يلاحظ بحارة كاليفورنيا الكارثة إلا بعد مرور وقت طويل عند رؤية طلقات الاستغاثة من تيتانيك.
تزايد انحدار تيتانيك نحو القاع في تمام الـ2:15 صباحا، وعلى متنها 1500 شخص لم تحملهم قوارب النجاة، ثم خلال 5 دقائق مالت السفينة ليرتفع جزء منها في السماء قبل أن تنقسم نصفين وتذهب نحو القاع، بينما تساقط الركاب والطاقم في المياه، منهم من قتله حطام السفينة المتطاير، ومنهم من مات بسكتة قلبية من برودة المياه التي بلغت 2 مئوية تحت درجة التجمد، وفي ذلك فإن قوارب النجاة كانت تكفي لحمل 500 من الناجين في المياه، ولكن خوف قادة القوارب من الغرق منعهم عن الإنقاذ، وخلال 20 دقيقة خمدت أصوات الاستغاثة من السابحين بالمياه بعد أن لقوا مصرعهم بسبب البرودة الشديدة ولم يتم إنقاذ سوى عدد قليل منهم.
بلغت حصيلة ضحايا السفينة نحو 1600 لقوا مصرعهم وسط تضارب بالأرقام سببه عدم وضوح قائمة ركاب السفينة، وأما الناجين على القوارب فقد حملتهم سفينة كارباثيا وهي أول من تلقى استغاثات تيتانيك، لتنقل الناجين نحو هيلفاكس الكندية التي وصلوها يوم 18 أبريل بعد 4 أيام من غرق تيتانيك، وسط حشود بلغ عددها 40 ألف شخص حضروا لاستقبال الناجين، بعد أن انتشرت أخبار تايتانيك بفعل رسائل التيليجراف التي وصلت الصحف الأمريكية والبريطانية بنبأ غرقها.
-ما نعرف عن السفينة المماثلة لتيتانيك؟
رغم قلة الصور التي أظهرت تيتانيك إلا أن أختها الكبرى والأقرب شبها لها وهي السفينة "أوليمبيا" عاشت لربع قرن بعد غرق تايتانيك، وشاركت أوليمبيا في الحرب العالمية الأولى وصدمت إحدى غواصات يوبوت الألمانية ونجت حتى تم تفكيكها منتصف الثلاثينيات بسبب الحالة الاقتصادية.
-أين تيتانيك؟
ظل الوصول لحطام تايتانيك صعبا نظرا لتواجدها بعمق 3.7 كيلومتر في القاع، ولكن بعثة بقيادة المستكشف روبرت بالارد عام 1985 كشفت عن بقايا تايتانيك ليتحول موقعها على بعد 1550 كيلومترا من سواحل هيلفاكس الكندية مزارا سياحيا للغوص والاستكشاف، حيث تم استخراج الكثير من مقتنيات السفينة الفاخرة وعرضها بالمتاحف، غير أن استخراج هيكل السفينة كان صعبا بسبب شدة تحلله بفعل العوالق البحرية، ويتوقع أن يختفي هيكل السفينة تماما بحلول عام 2056.