إن قيادة الطائرات المقاتلة ليست مجرد مهنة عسكرية عادية، فهي تضع الطيار أمام تحديات جسدية ونفسية هائلة، بدءا من قوى الجاذبية الشديدة التي قد تسبب فقدان الوعي، وصولا إلى مخاطر نقص الأكسجين في الارتفاعات الشاهقة، كل ذلك في بيئة غير متوافقة بطبيعتها مع قدرات الإنسان. ورغم الاعتماد على تدريبات متخصصة ومعدات متطورة مثل الملابس المقاومة للضغط وأنظمة توليد الأكسجين، يظل الخطر قائما ما دام الإنسان هو من يقود قمرة القيادة.
ويقول هاريسون كاس وهو كاتب في شؤون الدفاع والأمن القومي في مجلة "ناشونال إنتريست" إن قيادة الطائرات المقاتلة تعد من أشد المهن صعوبة ومشقة جسدية، ومن أخطرها على الإطلاق.
ويضيف كاس الذي يعمل محاميا وقد التحق بالقوات الجوية الأمريكية كمتدرب طيار قبل أن يتم تسريحه لأسباب طبية، إن الجسم البشري لم يتطور ليتحمل المتطلبات الفيزيائية لقيادة الطائرات المقاتلة. فالقوى الجاذبية العالية، والارتفاعات الشاهقة، ونقص الأكسجين تجعل الطائرة المقاتلة تضع الجسم البشري في بيئة وظروف بعيدة تماما عما صُمم هذا الجسم ليتحمله. وباختصار، من دون تدريب متخصص ومعدات خاصة، فإن هذه البيئة غير متوافقة مع الحياة.
ضغط قوة الجاذبية
وأوضح خطر يواجه الطيارين المقاتلين هو التعرض لإجهاد قوة الجاذبية. فعندما يتم سحب الطائرة أو الانعطاف بها بقوة في مناورة سريعة، قد يتعرض الطيار لقوة تعادل تسعة أضعاف الجاذبية ، أي أن جسمه سيشعر حينها وكأنه يزن تسعة أضعاف وزنه الطبيعي.
ويقول كاس الذي يركز في عمله على الاستراتيجية العسكرية والطيران والفضاء وقضايا الأمن العالمي ويحمل شهادة دكتوراه في القانون من جامعة أوريجون، ودرجة ماجستير في الصحافة العالمية والعلاقات الدولية من جامعة نيويورك، إن تحت هذه الظروف، يُسحب الدم بعيدا عن الدماغ والعينين ليتجمع في الساقين والبطن. وهذه مشكلة كبيرة لأن الدماغ يحتاج الدم ليعمل، والعينان تحتاجانه للرؤية.
وبطبيعة الحال، يحتاج الطيار الدماغ والعينين للتحكم في الطائرة. ومع تراجع الوظائف، قد تكون النتائج كارثية، يبدأ الطيار بفقدان وضوح الرؤية تدريجيا، ثم تضيق الرؤية النفقية، وأخيرا تختفي تماما، في حالة تُعرف بفقدان الوعي الناجم عن قوة الجاذبية. وحتى لحظة قصيرة من فقدان الوعي أثناء الطيران بسرعات تفوق سرعة الصوت أو على ارتفاعات منخفضة قد تكون مميتة.
ولمنع ذلك، يتدرب الطيارون بشكل مكثف على مناورة مقاومة الجاذبية، وهي تقنية منسقة يقوم فيها الطيار بشد عضلاته والتحكم بتنفسه بطريقة تحافظ على تدفق الدم في الجزء العلوي من الجسم بدلا من أن يتجمع في الأسفل.
كما يرتدي الطيارون بدلة خاصة مضادة للجاذبية تحتوي على أكياس هوائية قابلة للنفخ تضغط على الساقين والبطن للمساعدة في تقليل تجمع الدم في الجزء السفلي من الجسم. ومع ذلك، تبقى المساحة بين السيطرة الكاملة وفقدان الوعي الكامل ضيقة جدا، فالانتقال بين الحالتين قد يحدث خلال ثوان قليلة.
تهديدات مرتبطة بالأكسجين
تعمل الطائرات المقاتلة غالبا على ارتفاعات يكون الأكسجين فيها ضعيفا إلى درجة لا تكفي لدعم حياة الإنسان. لذلك تعتمد الطائرات الحديثة على أنظمة توليد الأكسجين على متنها للحفاظ على حياة الطيار. لكن ذلك يخلق اعتمادا خطيرا على نظام قد يتعرض للفشل. فإذا توقفت إمدادات الأكسجين، تظهر أعراض "نقص الأكسجة" بسرعة، وتشمل الدوار والنشوة والارتباك وضعف التحكم الحركي، وكلها أمور خطيرة عند قيادة طائرة مقاتلة.
ويزداد الخطر بسبب أن نقص الأكسجة غالبا ما يُضعف الوعي الذاتي، ما يجعل الطيار أقل قدرة على ملاحظة حالته وتشخيصها. ولهذا تركز برامج التدريب على التعرف المبكر على علامات نقص الأكسجة عبر تدريبات متكررة في غرف محاكاة منخفضة الأكسجين (كما في فيلم ضابط ورجل نبيل)، حيث يُعرض الطيارون عمدا لبيئات منخفضة الأكسجين بشكل مسيطر عليه، على أمل أن يتعلم كل طيار كيف يتعرف على المؤشرات الخاصة بجسمه عندما يتعرض لنقص الأكسجين.
ومن خلال التدريب والمعدات المتخصصة، يتمكن الطيارون من تقليل المخاطر الفسيولوجية المرتبطة بقيادة أكثر الطائرات تطورا في العالم، لكن هذه المخاطر تبقى حاضرة ولا يمكن القضاء عليها بالكامل ما دام الإنسان ما زال في قمرة القيادة.