د. سعيد المصري يكتب: استعادة الذاكرة الجمعية لمعرض الكتاب - بوابة الشروق
الأربعاء 29 يناير 2025 1:53 ص القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

د. سعيد المصري يكتب: استعادة الذاكرة الجمعية لمعرض الكتاب


نشر في: السبت 25 يناير 2025 - 9:47 م | آخر تحديث: السبت 25 يناير 2025 - 9:48 م

بمناسبة انعقاد معرض القاهرة الدولي للكتاب رقم ٥٦ ، أهم حدث ثقافي مصري تم الحفاظ عليه على مدى أكثر من نصف قرن، هناك جمهور كبير للمعرض بلا شك ، البعض يذهب بشغف القراءة ، والبعض الآخر يذهب للتسلية وقضاء وقت الفراغ، ومن بين جمهور التسلية يجتذب المعرض سنويا قراء جدد يدفعهم الفضول والمحاكاة والرغبة في التسوق للذهاب الي ارفف الكتب للشراء منها. والدليل على ذلك أن كثير من الناشرين يتسابقون كل عام على حجز أجنحة لعرض منشوراتهم ، مما يؤكد أن المعرض سوق مهم لنشر الكتب وتوسيع قاعدة القراء. وهذا ما يُبقي على صناعة النشر رغم التحديات الكثيرة التي تواجهها.
وبالتأكيد يحتفظ جمهور المعرض بذكريات شخصية كثيرة حدثت عبر تاريخه الطويل. ويتطلب ذلك استعادة للذاكرة الجمعية للمعرض وهي ذاكرة محفورة في وعي كثير من المصريين والعرب الذين زاروا المعرض بأحداثه الشخصية وقضاياه العامة . وأحسب أن استعادة هذا التاريخ الشفهي مهم في اكتشاف مدى عمق هذا الحدث الثقافي الكبير في تشكيل وعي المثقفين المصريين والعرب عبر الأجيال. وهذا ما يدعوني كواحد من القراء إلي أن أحكي جانبا من ذكرياتي في معرض الكتاب باعتبارها جزء لا يتجزأ من العلاقة الوثيقة التي تربطني بالكتاب. وأن أتأمل خلالها علاقتنا بالمعرفة فيما كانت عليه سابقا وما جرى فيها من تحولات جذرية قد تؤثر على معرض الكتاب مستقبلا.
أذكر أنني ذهبت إلى المعرض عام ١٩٧٩ ، وكان مقره في الأوبرا ، حين كنت طالبا في كلية الآداب جامعة القاهرة ، كانت رحلة المعرض بالنسبة لي ولغيري ممتعة للغاية وشاقة جدًا ومليئة بالشغف بحثًا عن المعرفة في زمن صعب يشقى فيه الباحث عن المعرفة ويفرح فرحة كبيرة يصعب وصفها حين يعثر على كتاب مهم.
وكان أكثر ما يميز الراغب في المعرفة والثقافة في هذا الزمان أن يمتلك مصادر للمعرفة غير متاحة لغيره ، ولهذا كانت المكتبات الشخصية كنوز للمعرفة ، وكل هذا تغير الآن وأصبحت المعارف متوفرة بكثرة وعلى قارعة الطريق وفي دهاليز الفضاء الرقمي عبر الإنترنت بصورة تفوق الطلب على المعرفة.
أعود لذكريات عام ١٩٧٩ وأذكر أنني ادخرت من مصروفي مبلغاً لشراء الكتب و اشريت به من المعرض كتبا كثيرة باللغة العربية ما ذلت احتفظ ببعضها حتى الآن في مكتبتي الخاصة شاهدة على مسيرتي العلمية والثقافية ، وكان من عادتي أن أتجول داخل المعرض على كل دور النشر فيما يشبه التنقيب على الآثار في الحفائر بلا كلل أو ملل حتي تنفذ جيوبي ، ولهذا لم يحتمل مصروفي الهزيل بالطبع شراء كتب أجنبية سوى كتاب واحد بعنوان الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيون Anthropology and Anthropologists لأدم كوبر Adam kuper ، وهو كتاب مهم لدارسي الأنثروبولوجيا ( علم دراسة الانسان بسماته البيولوجية وثقافته ونظمه الاجتماعية في كل مكان وزمان )، وأذكر أنني ذهبت بهذا الكتاب فرحا لأستاذي الدكتور محمد الجوهري، أحد أهم رواد علم الاجتماع في مصر والعالم العربي ، أمد الله في عمره ومنحه الصحة والعافية ليستمر عطاءه العلمي ، ويومها أُعجب باختياري وقال لي: "هذا كتاب مهم ، اطلع عليه واكتب عرض له ،وسوف أنشره لك في العدد القادم من مجلة « الكتاب السنوي لعلم الاجتماع» ، وهي مجلة سنوية أسسها أستاذنا دكتور محمد وتوقف اصدارها بسبب توقف دار المعارف عن دعمها ، ولهذا حديث آخر .
لقد كان تكليفي لأول مرة في حياتي بقراءة كتاب أجنبي من اختياري وعرضه في مجلة متخصصة حدث جلل وأصابني بقلق شديد ظل معي شهرا كاملا، حيث كانت هذه أول مغامرة كبيرة في بداية دراستي الجامعية لعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا ، وتحد كبير لقدرتي على القراءة باللغة الانجليزية في تخصص الأنثروبولوجيا. وكم كانت سعادتي بتقدير استاذي وثقته الكبيرة في شخصي الضعيف حين أشاد بمقالي عن الكتاب، ووافق علي نشره بعد شهر من تكليفي به ، وكان هذا المقال أول لبنة في مسيرتي الذاتية العلمية التي أُدين فيها بالفضل لأستاذي الجليل دكتور محمد الجوهري .
تركت معرض الكتاب عائدا إلى البيت بعد يوم حافل بالمشقة والمتعة في الوقت ذاته ، حيث كانت الفُرجة على عناوين الكتب وما يقع على عيني من عناوين فصول لصفحات الكتب بمثابة إثراء لعقلي يستثير فضولي المعرفي ، وكنت استمتع بتصفح الكتب التي اشتريها وتتكون بيني وبين هذه الكتب علاقة وثيقة ، أذهب إليها بين الحين والحين عندما تضل معرفتي أو تشح أفكاري أو يزداد شغفي المعرفي ، وألقي عليها بأسئلتي خلال القراءة المطولة حتي أجد ضالتي ، وهو نفس ما يحدث الآن مع أدوات الذكاء الاصطناعي بين الباحث (الإنسان) وباحث آخر هو (الآلة ) - الشات جي بي تي ChatGPT ، مع الفارق أن العلاقة المعرفية فيما سبق مع الكتاب كانت بطيئة وأشبه بعقد ثقافي بين إنسان ألف كتابا وباحث يريد أن يتزود بالمعرفة. وكان الكتاب الورقي هو الوسيط بين الطرفين (المؤلف) و (الباحث القارئ) وشاهد على العلاقة الشرعية الوثيقة بينهما ، أما الآن اصبحت الآلة الذكية هي الوسيط الجديد الذي يريد أن يختصر تعقيدات البيانات الضخمة عبر متاهة الفضاء الرقمي بما يغري الإنسان بأن تعمل الآلة بالتفكير نيابة عنه، في تطور وتحد جديد أخشى أن يقوض قواعد التراكم المعرفي أو يصيب الملكية الفكرية في مقتل.
وهذا يدعو إلى التساؤل حول مصير الكتاب ومعارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك