فى عالمنا اليوم يلعب الوعى النفسى دورا مهما للغاية فى محاولة فهم النفس وفهم ذواتنا فى محاولة شديدة التعقيد تحتاج إلى جهد كبير فى محاولة الغوص فى أعماق الوعى الخاص بنا، وهى رحلة شاقة تحتاج إلى جهد كبير.

الطب النفسى اليوم يمكنه أن يساعدنا على خوض تلك الرحلة، خاصة مع لمعانه فى الفترة الأخيرة، وتطور أساليبه، وإقبال الناس عليه عكس عصور أخرى كان فيها الطب النفسى، ومحاولة فهم النفس، وغوض رحلة الفهم ضربا من ضروب الجنون، ولكن هذا تغير بشكل كبير فى واقعنا المعاصر.

ويعد الدكتور والكاتب محمد طه، أحد أبرز من كتبوا فى الطب النفسى، خاصة فى كتابه الأحدث «فى دايرة الرحلة: الحب.. الوعى.. الأحلام»، الصادر عن دار الشروق، فهو تجربة وكتابة مختلفة للغاية عن كل سابقيه.

كتاب «فى دايرة الرحلة» قائم على ثلاثة أضلاع، وهى ثلاثية الحب، الوعى، والأحلام، فهذا كتاب ليس مثل كل الكتب فالمنهجية المكتوب بها الكتاب هى منهجية حرة، أقرب لشذرات الفلسفية النفسية، خالية من التعقيدات الأكاديمية أو الإكلينيكية.

فى الكتاب نشعر أن الفصول مكتوبة بطريقة التداعى، تغلب عليها الحرية، فمثلا لا نرى أن كل جزء يتحدث عنه الكتاب يسير بشكل خطى أو حديث كامل، بل نرى فصلين عن الوعى، ثم فصل عن الحب، ثم فصلين عن الأحلام، وهكذا بطريقة متناغمة تصنع شكلا جديدا للكتابة.

الكتاب يحاول الغوص فى الوعى النفسى للمتلقى بشكل أعمق من كتب الدكتور محمد طه السابقة، بشكل أكثر فلسفية، وأكثر وعيا، هنا مثلا نرى تناول العلاقات بشكل أعمق من كل الكتب الأخرى التى تناول فيها طه.

هنا نرى محاولة لفهم طبيعة العلاقات من منظور فلسلفى أكثر من كونه دراسة للعلاقات، هنا نرى الخوض فى الوعى النفسى الخاص بالعلاقات للرجل والمرأة، نرى الوعى النفسى الجمعى، ونعرف عن طبقات المرأة الأربع حواء، هيلينا، مريم، وصوفيا.

ونرى أيضا طبقات الرجل من رجل الغاب، ورجل الحكمة، وغيرهم، ونرى الوعى الجمعى الذى يؤثر فى العلاقات وأشكالها، الحب أيضا حاضر بقوة ومحاولة فهمه متواجدة على مدار صفحات الكتاب.

الوعى هنا وعى جديد يؤسس له محمد طه منذ بداية رحلته فى الكتابة، ولكنه هنا وعى جديد أكثر عمقا، حتى بالنسبة له هو، هذه طبقة جديد يأخذ فيها الكاتب المتلقى ويغوص به محاولا أن يفهمه وعى ذاته، عبر التزامن والتخاطر، وعبر فهم ما يمكن أن يكون ميزان هذا الكون الكبير.

الأحلام عمود أساسى فى الكتاب، وتشغل حيزا كبيرا من مضمونه، نرى محاولة لفهم الأحلام فى سياقتها، محاولة للممارسة التحليل النفسى عن طريقها بشكل فرويدى أو كارل يونغى، سردا لأحلام كثيرة لأناس مختلفين لمحاولة تحليلها، وفهم كيف يمكن للأحلام أن تؤثر فى حياتنا، هى محاولة لفهم أنفسنا عن طريق أحلامنا، وهى محاولة أيضا للغوص فى طبقة مهمة من وعينا النفسى.

أهم ما يميز الكتاب هو التناول فهو قائم بشكل كبير على التبسيط الكبير لشكل النفسى الإكلينيكى الذى قد يبدو معقدا بعض الشىء، ولكن اللهجة العامية أو اللهجة المصرية الحديثة كما يصفها الكاتب، والأسلوب السلس فى التنقل بين الموضوعات المطروحة صنع كتابا يدخل إلى عقل ووعى المتلقى الذى يقرأه.

كتاب «فى دايرة الرحلة» يستمد عنوانه من أغنية لأحمد منيب «فى دايرة الرحلة»، كلمات ياسر أبو النصر، وألحان أحمد منيب، والتى أعاد محمد منير غناءها وإحياءها بتوزيع جديد، لتصبح واحدة من أهم وأشهر أغانيه، وأظن أنه لا يوجد أفضل من هذا العنوان لكتاب يتناول رحلة الإنسان فى وعيه وذاته، لمحاولة فهم نفسه وحياته ومشاكله، عبر الغوص فى الحب، الوعى، والأحلام، والذين يشكلون جزءا كبيرا من وعينا الجمعى، ومن ذواتنا بشكل عام.