بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جولة تستمر خمسة أيام تشمل كلًّا من ماليزيا واليابان وكوريا الجنوبية، وهي أول زيارة له إلى المنطقة منذ توليه منصبه في يناير الماضي.
وشهد ترامب، يوم الأحد 26 أكتوبر 2025، توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين زعماء تايلاند وكمبوديا، وبموجب الاتفاق تُطلِق تايلاند سراح 18 جنديًا كمبوديًا محتجزين لديها، ويبدأ الجانبان في إزالة الأسلحة الثقيلة من منطقة الحدود.
ويأتي هذا الاتفاق في إطار الهدنة التي تم التوصل إليها قبل ثلاثة أشهر، بعد أن اتصل ترامب بزعيمي البلدين آنذاك، وحثهما على إنهاء الأعمال العدائية أو تعليق محادثاتهما التجارية مع واشنطن، بحسب الجارديان.
اشتباكات بين البلدين في مايو
اندلع الصراع بين تايلاند وكمبوديا، إثر اشتباكات حدودية بين البلدين في أواخر مايو الماضي، ما أسفر عن مقتل جندي كمبودي، وتسبب في وقوع اشتباكات جديدة بين الجانبين، أدت بدورها إلى مقتل 38 شخصًا على الأقل، إلى جانب نزوح أكثر من 300 ألف مدني.
ولا يُعدّ الاشتباك الحدودي الأخير هو الوحيد بين البلدين، بل يعكس صراعًا ثقافيًا طويل الأمد تدّعي فيه كل دولة ملكيتها لمعبدي "برياه فيهير" و"تا موين ثوم"، إلى جانب الأراضي المحيطة بهذين المعبدين.
فمتى بدأت جذور الخلاف بين البلدين؟ ولماذا لا تجد طريقها إلى حل دائم، وتعود الاشتباكات بين البلدين من وقت لآخر؟
يُجيب التقرير التالي على هذه الأسئلة، بحسب الموسوعة البريطانية المحدودة "Britannica".
إمبراطورية الخمير في كمبوديا تتفوق على تايلاند
ظلت إمبراطورية الخمير، التي حكمت كمبوديا، متفوقة على تايلاند على مدار ستة قرون من القرن التاسع وحتى القرن الخامس عشر، حيث سيطرت على معظم جنوب شرق آسيا القارية، بما في ذلك أجزاء كبيرة من تايلاند ولاوس وفيتنام الحديثة، مما أثّر بعمق على فنون المنطقة وعمارتها وتقاليدها السياسية.
أواخر القرن الـ16.. تايلاند تصعد وكمبوديا تتوارى
تمامًا كما يحدث في جميع الحقب التاريخية، تصعد إمبراطوريات فيما تتوارى أخرى. ومع تراجع إمبراطورية الخمير، صعدت مملكة "أيوثايا" السيامية (التايلاندية) في القرن الخامس عشر إلى السلطة، واستولت على عاصمة الخمير "أنجكور"، إلى جانب أراضي غرب كمبوديا، كما تبنّت الأنماط الثقافية ذاتها للإمبراطورية الخميرية الزائلة.
وبحلول أواخر القرن السادس عشر، وجدت كمبوديا نفسها محاصرة بدولتي جوار قويتين: الأولى سيام من الغرب، والثانية فيتنام من الشرق، لتظل تحت تبعية متبادلة لكليهما. واستمر هذا الاضطراب حتى القرن التاسع عشر، حين أصبحت كمبوديا محمية فرنسية، ثم جزءًا من الهند الصينية الفرنسية، حتى استقلالها عام 1953.
تايلاند تتفوق على كمبوديا اقتصاديًا
سمح استقلال تايلاند خلال الحقبة الاستعمارية واستقرارها النسبي المستمر بتفوقها الاقتصادي على كمبوديا، التي مرّت بالعديد من الاضطرابات الجيوسياسية التي كلّفت اقتصادها كثيرًا، من الاستعمار الفرنسي والقصف الأمريكي إلى حرب فيتنام ثم الإبادة الجماعية للشعب الكمبودي في ظل نظام الخمير الحمر.
كمبوديا تتهم تايلاند بسرقة إرثها الثقافي
في العقود الأخيرة، اشتعلت التوترات حيث تتهم كمبوديا تايلاند بالاستيلاء على تاريخها الثقافي، مدعيةً أن الجوانب الرئيسية للثقافة التايلاندية تنبع من التقاليد الخميرية، بما في ذلك الفن والعمارة التايلاندية، إلى جانب فنون القتال "موي تاي"، التي يُقال إنها مشتقة من نظيرها الكمبودي "كون خمير".
وترد تايلاند بأن هذا تبادل ثقافي حدث على مدار قرون طويلة وليس سرقة، مشيرةً إلى أن قوتها العسكرية تبرر مطالبتها بمناطق حدودية معينة. ولا يزال هذا التنافس يشكّل المشاعر القومية والخطاب السياسي في كلا البلدين.
كمبوديا تصبح مستعمرة فرنسية لإنقاذها من التلاشي
بعد استيلاء فرنسا على جنوب فيتنام، الذي أطلقت عليه "كوتشينشينا"، قَبِل الملك الكمبودي نورودوم الحماية الفرنسية عام 1863، والتي كانت بمثابة استعمار فرنسي حقيقي للبلاد، للحفاظ على السيادة الكمبودية من الاعتداءات التايلاندية المتكررة.
ورغم استغلال الاستعمار الفرنسي لموارد كمبوديا، فإنه —بحسب المؤرخين— حافظ على بقاء الدولة من التلاشي الكامل على يد دولتي الجوار سيام وفيتنام.
الاستعمار الفرنسي كرّس الأزمة بين البلدين
بعد أن عززت فرنسا سيطرتها على كمبوديا، أجبرت سيام (تايلاند حاليًا) على التنازل عن بعض أراضيها، لينتهي المطاف بتوقيع المعاهدة الفرنسية السيامية عام 1907، التي حددت جزءًا كبيرًا من الحدود الحديثة بين تايلاند وكمبوديا ولاوس (التي كانت تحت السيطرة الفرنسية آنذاك).
بموجب هذه المعاهدة أصبحت كلٌّ من "باتامبانغ" و"سيام ريب" و"سيري ساوفوان"، بالإضافة إلى معبد "برياه فيهير" ومناطق حدودية أخرى، تحت السيادة الكمبودية، ولا تزال نتائج هذه الاتفاقية محل استياء في تايلاند حتى اليوم.
تايلاند تستعيد أراضيها المفقودة باستثناء معبد برياه فيهير
خلال الحرب العالمية الثانية، استعادت تايلاند، بالتحالف مع اليابان، جزءًا كبيرًا من الأراضي التي فقدتها عام 1907، باستثناء معبد "برياه فيهير"، الذي أعادته إلى فرنسا عام 1946 مقابل انضمامها إلى الأمم المتحدة.
استقلال كمبوديا يكلفها فقد سيادتها على المعبد
بعد استقلال كمبوديا عام 1953، استغلت القوات التايلاندية ضعف كمبوديا العسكري جراء الاستعمار الفرنسي لتعيد احتلال معبد "برياه فيهير"، مما دفع كمبوديا إلى إحالة النزاع إلى محكمة العدل الدولية عام 1959.
محكمة العدل الدولية تعيد المعبد لكمبوديا
في عام 1962، قضت محكمة العدل الدولية بتبعية معبد "برياه فيهير" لكمبوديا، لكنها لم تحكم بتبعية الأراضي المحيطة به لأي من البلدين، مما مهد الطريق لنزاعات مستقبلية. وظل المعبد مغلقًا لفترة طويلة خلال عقود الاضطرابات في كمبوديا، ولم يُفتح أمام الزوار إلا في تسعينيات القرن العشرين.
تسجيل المعبد في اليونسكو يجدد الاشتباكات
عادت التوترات إلى الواجهة عام 2008، عندما سجلت كمبوديا معبد "برياه فيهير" كموقع تراث عالمي لليونسكو، ما أغضب تايلاند، لتقع اشتباكات حدودية بين البلدين على مدار ثلاثة أعوام (2008–2011)، أسفرت عن مقتل 20 شخصًا على الأقل وتشريد الآلاف.
واستأنفت كمبوديا مجددًا أمام محكمة العدل الدولية طالبةً توضيح حكم عام 1962، التي دعت إلى سحب جميع القوات من المنطقة (وهو ما تم عام 2012)، وفي عام 2013 أكدت المحكمة أن المعبد ومحيطه المباشر يقعان تحت السيادة الكمبودية.
اشتباكات في 28 مايو تقطع التبادل التجاري
في 28 مايو 2025، أسفرت اشتباكات قرب معبد "برياه فيهير" عن مقتل جندي كمبودي. وتجدّدت أعمال العنف بين البلدين على مدار الأشهر التالية، حظرت خلالها كمبوديا دخول البضائع التايلاندية، بما في ذلك الغذاء والوقود، فيما أغلقت تايلاند المعابر الحدودية وفرضت قيودًا على خدمات الإنترنت والكهرباء مع كمبوديا.
كمبوديا تعبث باستقرار تايلاند السياسي
سرعان ما زعزع الصراع استقرار السياسة التايلاندية، إذ أوقفت المحكمة الدستورية رئيسة الوزراء بايتونجتارن شيناواترا عن منصبها بعد تسريب مكالمة هاتفية لها مع الزعيم الكمبودي هون سين في 15 يونيو، ظهرت فيها منحازةً لكمبوديا على حساب تايلاند، إذ وصفت الجيش التايلاندي بـ"الجانب الآخر"، فيما خاطبت هون سين بـ"العم"، ما اعتبره السياسيون تقويضًا للاصطفاف الوطني، وإظهارًا لاحترامٍ لزعيم منافس.
تندلع إثر ذلك الاحتجاجات المطالِبة بإقالة شيناواترا، كما انسحب حزب "بومجايتاي" من ائتلافها.
واتضح لاحقًا أن المكالمة سُجّلت وسُرّبت من الجانب الكمبودي، ما أدى إلى تدهور العلاقة بين أقوى عائلتين حكمتا تايلاند وكمبوديا، تربطهما علاقات وثيقة، وهما ثاكسين شيناواترا، رئيس الوزراء التايلاندي السابق الملياردير ووالد بايتونجتارن، وهون سين، رئيس وزراء كمبوديا من عام 1985 إلى عام 2023، الذي يشغل الآن منصب رئيس مجلس الشيوخ، فيما يتولى ابنه هون مانيت رئاسة الوزراء.
تصعيد في 23 يوليو يخفض التمثيل الدبلوماسي
في 23 يوليو، انفجرت الأوضاع مجددًا، حين فجّرت دورية تايلاندية في مقاطعة "أوبون راتشاثاني" الحدودية لغمًا أرضيًا، مما أدى إلى إصابة خمسة جنود، لتتهم تايلاند كمبوديا بزراعة ألغام جديدة. واستدعى البلدان سفيريهما، وخفضت تايلاند مستوى تمثيلها الدبلوماسي مع كمبوديا.
قتال قرب معبد تا موين ثوم يشعل الحرب
في 24 يوليو، اتخذ الصراع منحى خطيرًا ليصبح قتالًا مفتوحًا تُستخدم فيه مختلف أنواع الأسلحة والذخيرة الحية، حيث اندلع قتال قرب معبد "تا موين ثوم"، تبعته اشتباكات عبر 12 موقعًا حدوديًا، تبادل الطرفان خلالها إطلاق النار والمدفعية والصواريخ.
كما استهدفت الغارات الجوية التايلاندية مواقع كمبودية، ما أدى إلى إعلان الأحكام العرفية في عدة مناطق حدودية تايلاندية.
وتعرضت مناطق مدنية للقصف من كلا الجانبين، بما في ذلك مستشفيات في تايلاند ومدرسة في كمبوديا، وفقًا لمسؤولين كمبوديين.
عداوة الأسرتين الحاكمتين تؤجج الصراع
نشر تاكسين شيناواترا، رئيس الوزراء التايلاندي السابق، منشورًا على موقع X قال فيه: "على الجيش التايلاندي تلقين هون سين درسًا على دهائه"، ليردّ الزعيم الكمبودي هون سين باتهام تاكسين بالخيانة وتأجيج الحرب.
وسلّطت وسائل الإعلام الضوء على تزايد العداوة العائلية، معتبرةً إياها سببًا رئيسيًا في تفاقم توترات الصراع الحدودي.
انتهاء الصراع
في ظل جهود الدول المجاورة لاحتواء التوتر العسكري بين البلدين، وخوفًا من الانزلاق إلى حرب طويلة الأمد، دعت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، التي ترأستها ماليزيا عام 2025، إلى وقف فوري لإطلاق النار.
كما عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة جلسة طارئة في 25 و26 يوليو، ليعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الجانبين اتفقا على العمل من أجل وقف إطلاق النار رغم استمرار القتال.
وأكدت تايلاند وكمبوديا لاحقًا حضورهما محادثات 28 يوليو في كوالالمبور بماليزيا، حيث أعلنتا عن "وقف إطلاق نار فوري وغير مشروط".