«سألونى الناس» أغنية بصوت فيروز كتبت شهادة ميلاده كملحن وهو فى سن الـ17
يبقى الموسيقار زياد الرحبانى الذى ودعته الأوساط الفنية أمس الأول بحزن كبير؛ أحد المجددين فى الموسيقى العربية، عبر تجربة ملهمة، عزفت على أوتار اجتماعية وسياسية، وعبرت عن واقع لبنان فى مراحل تاريخية مختلفة، وأيقظ بإبداعه روحا موسيقية مختلفة، مزج فيها بين مذاق شرقى خاص بأعمال الرحبانية التى تربى عليها، وشغفه بالموسيقى الغربية الكلاسيكية، وأساليب عزف موسيقى الجاز الأمريكى.
بدأت علاقة زياد بالموسيقى فى سن مبكرة جدا، وذلك عندما وضع أول ألحانه الغنائية بعنوان «ضلك حبينى يا لوزية» فى عام 1971، والتى شكّلت إعلانا عن ميلاد ملحن واعد، وهو فى سن الخامسة عشرة من عمره، ولكن جاءت اللحظة الفارقة فى مسيرته الفنية فى عام 1973، حين لحن أغنية «سألونى الناس» لوالدته المطربة فيروز، وذلك فى ظل وجود والده الموسيقار عاصى الرحبانى بالمستشفى، وتغيبه عن العمل الفنى، بينما كانت فيروز تستعد لتقديم مسرحية «المحطة» من تأليف الأخوين رحبانى، وكتب وقتها العم منصور الرحبانى كلمات أغنية تعكس الغياب المفاجئ لشقيقه عاصى، وأسند مهمة التلحين إلى الرحبانى الصغير زياد، وجاءت النتيجة عملا أُضيف لسجل نجاحات الرحبانية، خاصة بعد أن أدّتها فيروز ضمن أحداث المسرحية بشكل عبر حالة افتقاد الحبيب والتطلع لرجوعه، وأحدثت الأغنية صدى جماهيريا واسعا، كما مثّلت أول ظهور حقيقى لزياد، واعتماده كملحن ضمن أعمال عائلة الرحبانية.
أغنية «سألونى الناس» برصانة الأسلوب للموسيقى الشاب إبن السابعة عشرة، والذى يضاهى ألحان الأب عاصى، شكّلت بداية مرحلة جديدة فى مسيرة الرحبانية، وأظهرت ملامح الأسلوب الخاص لزياد، والمختلف عن نهج والده وعمه، وفتحت أمامه باب التعاون الموسيقى مع فيروز والذى امتد لعقود، ولحن لها مجموعة من أشهر أغانيها، ومنها «أنا عندى حنين»، و«البوسطة»، و«سلملى عليه»، وغيرها.
وشارك زياد الرحبانى فى أول ظهور له على خشبة المسرح كممثل فى عرض «المحطة»، والتى جسد فيها دور الشرطى، وهو نفس الدور الذى كرره مرة أخرى فى مسرحية «ميس الريم»، والتى قدّم فيها مشهدًا موسيقيًا مع والدته فيروز، سائلًا إياها عن اسمها وبلدتها فى قالب حوار منغّم، إلا أن مشاركته لم تقتصر على التمثيل، بل قام أيضًا بتأليف موسيقى مقدمة «ميس الريم»، والتى أثارت إعجاب الجمهور لما حملته من تجديد فى الإيقاع والأسلوب، وكشفت عن لمساته الشابة المختلفة عن أعمال والده وعمه.
وبدأ زياد مرحلة جديدة فى مشواره الفنى بعيدا عن العائلة؛ عندما طلبت منه إحدى الفرق المسرحية اللبنانينة كتابة وتلحين مسرحية أصيلة للفرقة، وذلك بعد أن كانت الفرقة تعيش على إعادة تقديم مسرحيات الرحبانية، والتى كانت تلعب فيها المغنية اللبنانية مادونا أدوار فيروز، واستجاب زياد لهذا الطلب وكتب أول أعماله المسرحية بعنوان «سهرية»، والذى احتفظ فيها بشكل مسرح الرحبانية الكلاسيكى، إلا أنها كانت أقرب إلى شكل حفلة غنائية حسب وصف زياد نفسه فى أحاديث صحفية، حيث كانت الأغانى فيها هى العنصر الأبرز، وتدور الأحداث فقط لتخدم تقديم المقطوعات الموسيقية.
وجاء التحول الفكرى فى مسيرة زياد الرحبانى مع اندلاع الحرب الأهلية فى لبنان، حيث اتجه إلى مسرح سياسى واقعى يعكس حياة الناس اليومية، وجاءت أعماله تعبيرًا مباشرًا عن هموم المجتمع اللبنانى، بلغة نقدية لاذعة، وفى تلك الفترة برز اسم زياد ككاتب ومخرج ومؤلف موسيقى وممثل، وأصبح مسرحه منبرًا يُعبر عن جيل ضائع تحت وطأة الحرب، وشكل صوتًا نقديًا بارزًا فى المشهد الثقافى اللبنانى.
وقدم عددا من المسرحيات التى تناول فيها الواقع بأسلوبه الناقد والساخر، ومنها «نزل السرور» عام 1974، وكانت من أوائل أعماله الناقدة للطائفية، و«بالنسبة لبكرا شو؟» فى 1978، وتناول فيها قضايا الخيانة والانتماء والوضع السياسى الهش، و«فيلم أمريكى طويل» عام 1980، وطرح خلاها بأسلوب عبثى مأساوى وضع المثقف والسياسى فى ظل الحرب، و«شى فاشل» فى 1983، والتى انتقد فيها النظام التعليمى والفساد الإدارى.
لم ينفصل إبداع زياد الرحبانى عن حياته الخاصة، حيث ألف عددا من الأغانى التى تعكس فشل تجربته الحياتية مع زوجته دلال كرم، والتى انتهت بأزمة كبيرة عند اكتشافه ان ابنهما «عاصى» ليس من صلبه، وهو ما أرجعه إلى نتائج التحاليل المعملية للحامض النووى، والتى أثبتت بأنه ليس ابنه البيولوجى، وعبر عن تلك الحالة بأعمال منها «مربى دلال» و«بصراحة».
كذلك تناولت أغنيته «ولعت كتير» قصة حب طويلة امتدت إلى 15 عامًا بين زياد الرحبانى والفنانة اللبنانية كارمن لبّس، والتى انتهت بسبب عدم قدرته على توفير الاستقرار الذى كانت تطمح إليه حبيبته، وهى التجربة التى ألقت بظلالها على عدد من أغنياته فى تلك الفترة.
قدم زياد الرحبانى عشرة ألبومات عبر رحلته الممتدة لعقود، وكانت الألبومات الأشهير هى تلك التى صنعها لوالدته المطربة فيروز، بينما صاغ ألبومات أخرى لأصوات حملت رؤيته الموسيقية، شكلت جزءا مهما من أرشيفه الخاص، ومنها هدوء نسبى عام 1985، وألبوم معرفتى فيك فى عام 1987، وكيفك إنت 1991، وإلى عاصى 1995، ومش كاين هيك تكون 1999، ومع سلمى 2001، ومعلومات أكيدة - مع لطيفة فى 2006، وإيه فى أمل عام 2010.
وفى عالم السينما وضع زياد الرحبانى الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام، ومنها «نهلة»، إخراج فاروق بلوفة عام 1979، «وقائع العام المقبل»، لسمير ذكرى، 1985، وفيلم «بيروت» لجنيفر فوكس، 1987، وفيلما «متحضرات»، 1999، و«طيارة من ورق» لرندة الشهال، 2003، وفيلم «ظلال الصمت»، لعبد الله المحسن عام 2006، فيما ظهر كممثل فى فيلمين، هما فيلم «نهلة»، وجسد فيه دور عازف، و«طيارة من ورق» الذى لعب فيه دور «زياد».
لم تقتصر أعمال زياد الرحبانى على الكتابة المسرحية وكتابة الشعر والموسيقى، وكان الوجه الآخر له هو موقفه السياسى، والذى عبر عنه بجرأة، وذلك من خلال التأكيد على انتمائه للحزب الشيوعى اللبنانى، وكتابته لآرائه فى أكثر من جريدة لبنانية، ومنها النداء والنهار والأخبار اللبنانية، والتى كتب فيها عمودا حمل عنوان «مانيفستو» الذى تناول فيه الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية.