هذا يوم كنت أخافه، لذلك كنت أتجاهله ولا أفكر به. إذ إن بيروت لن تنفك تكون هناك رابضة فى فم الدنيا، مثلما أن شارع الحمرا سيكون فى مكانه، وعمارة الأطباء حيث يقع استوديو نوتا فى قبوة فى مكانها أمام مستشفى الجامعة، حيث كنت وعدتنى أن أراك هناك. هذا السياق الطبيعى للحياة أو لأكن دقيقا، هذا وصف مختزل لاطمئنان قديم بأننى سألتقيك ثانية ونحكى هذه المرة أكثر، لا تلك المرّة العابرة أمام باب مسرح المدينة. لكنك أخلفت ذلك كله وبكل مكرك وحيلتك وإبداعك - وهى خصال لم تنفعك لأن تعيش سعيدا على الصعيد الشخصى على الأقل - قررت بكل أنانية أن تمحو خططى الدائمة فى بيروت، أحلامى، وترسلها لخانة العدم. لذلك أود أن أسألك: هل هذا يوم مناسب للموت يا زياد؟
أنت لابد أنك ذهبت الآن إلى عالم آخر، عالم قد تتوفر به معرفة كلية مختلفة عن عالمنا، لا شك أنك بكل سهولة ستعرف ما نعتبره فى عالمنا غيبا، وتطّلع على روتينى اليومى فى بيروت، ألف من شارع الحمرا وصولا إلى مستشفى الجامعة، أغافل الحارس وأهبط وأدق جرس الاستوديو كل يوم علّ الباب يفتح. لا يأس.. أعود للحمرا وكلى ظن بأننى سأراك، يا رجل لقد كتبت مسرحية مع صديقك الجميل سعد حاجو وفكرت بعرضها فى بيروت علّك تسمع بقدومه وتجىء كرما لتلك الأيام التى تصاحبتما فيها فى بيروت.. لذلك أعيد سؤالى بكل لباقة: هل هذا يوم مناسب للموت يا زياد؟
أنا أنانى قليلا، لن أفكر بالسيدة فيروز ومشاعرها فلقد رأت رحيل عاصى وعقبه منصور ثم إلياس.. ثم أنت؟ لن أفكر لأننى أنا سأسألك ألم تفكر بمشاعرها عندما قررت الرحيل؟ يعنى بقيت فى بيروت بكل «الزفت» والعز الذى عاشت به تلك المدينة، ثم فجأة، وعندما بدأت الأمور الإقليمية بالاستقرار، ووعود عودة بيروت اقتصاديا وفجر انبلاجة عصر جديد لها، فى تلك اللحظة تختار الرحيل؟
«بلا كل أنواع تيابك.. بلا كل شى فيه تزيين. بلا كل أصحاب أصحابك.. الثقلا والمهضومين» هذه العبارة من أغنية بلا ولا شى نبهتنى إليك عام ١٩٩٣م. ومن مول فى دبى، مول اسمه الغرير ولا أدرى إن كان موجودا حتى اليوم، اشتريت قرصين من أقراص مسرحية «فيلم أمريكى طويل»، واستمعت لها.. طبعا لوحدى.. لم أستطع معرفة أيهم زياد حتى فتنت بـ«رشيد» ملك الساحة اللبنانية ع بياض. قبلها كان سياق من قراءة تغطيات صحف كويتية حول مسرحية «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، كنت بدأت أغوص فى مغاور فن الأخوين، والتف حينا إلى ما تصنعه وأبقى معه مطولا. عندما أعلن عن حوار معك فى الأل بى سى، عبر برنامج جيزيل خورى «حوار العمر» عام ١٩٩٧م لم أصدق، حتى أعلنت المذيعة عن بداية الحلقة، وظهرت أنت على الشاشة، صرخت صرخة أيقظت الحى بكامله وتلقيت توبيخا لن أنساه. كنت آنذاك قد حفظت: «سهرية»، «نزل السرور»، «بالنسبة لبكرة شو؟»، «فيلم أمريكى طويل»، «شى فاشل».. وأمّن لى صديق من بيروت أشرطة مسرحيّتى «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» و«لولا فسحة الأمل».. وطبعا كنت أموت وأروح أسافر بيروت، لذلك وعندما استطعت عام ١٩٩٨م كنت أبحث عنك فى كل شوارعها ومقاهيها، لذلك كانت عبارتى الغبية هدفا لك، يوم قلت لك قبلما ندخل لمسرحية فى مسرح المدينة عام ٢٠٠٦م: صار لى سبع سنوات أجى ع بيروت وما كنت شوفك! فرددت: تبقى تلفن قبل! فضحك من حولك.. هنا قررت الانتقام من الضحكة فرددت: هل تعرف يا أستاذ زياد أنك فى حوار العمر قلت إن أول دور لك كان دور رجل المباحث فى مسرحية المحطة.. لكن هذا غير صحيح! أذكر كيف تطلّعت فى وجهى وأصحابك تربصوا بضحكة جديدة من تعليق منتظر يخرج من فمك الذى قال: لكان شو؟ قلت لك: أول دور لك كان فى فيلم بنت الحارس لما كنت مع ولاد عمّك منصور عاملين ولاد بشير المعاز وروحتوا تخبروه بخبر البلدية! يوما سألتنى: وكيف انتبهت؟! وضحكت وقلت لى بأننى يجب أن أزورك فى الاستوديو.. ومرّت حرب الألفين وستة.. وانقطعت عن بيروت.. لكن ما انفك ذلك الحلم بجلسة مليئة بالضحك.. أذكر أننى كذبت عليك يومها وأنا آسف.. لحظة سألتنى: هل يسمعنى الناس فى الكويت؟ فقلت لك: طبعا ولك شعبية كبيرة ومحبون.. وأنا أعرف أن عدد من يعرفون أعمالك خارج نطاق فيروز فى الكويت من السهولة حصرهم.. بل يكفينا باص من واحد وعشرين راكبا لأجلبهم لك حتى شارع الحمرا، وستكون هناك مقاعد فارغة فى الباص. نسيت أسألك: هل هذا يوم مناسب للموت يا زياد؟
ماذا علّمتنى..؟ تعلمت منك الكثير بل أكثر الكثير، تعرف مع عشرة العمر، نتطبع بأطباع من نحب، لذلك كان عزفك واختياراتك الموسيقية بل وحتى لهجتك ولغتك طريقة من طرق فهم الحياة بالنسبة لى وأحيانا طريقة من طرق إعادة إنتاجها حديثا وكتابة. هل كنت أكرهك؟ طبعا.. كنت أكره الكليشيهات الغبية التى ترددها لا عن سواد قلب بل عن حزبية شبعت موتا وتعفّنت.. لذلك كنت أتخيل حوارا حول جمل رددّتها فى حواراتك الصحفية فقط لأنبهك.. وأعرف أنك ستضحك وتسبّ ونضحك ثم نذهب للأفران الوطنية ناكل مناقيش.. لبنان الجديد طلع لحم بعجين.. صح؟ هل أسمّعك مجددا أغانيك وأفرد كلمتها لأعزيك وأشبهك بصبحى الجيز الذى تركنى ع الأرض وراح؟ ووينك يا رفيق.. لا طبعا.. أولا لأنك لا تحب هذا الأمر.. ثانيا لأن لا مزاج لى.. وثالثا وهو الأهم.. لأنك اخترت يوما أحتاج معه أن أسألك بكل تهذيب: هل هذا يوم مناسب للموت يا زياد؟
هل تظن أننى أستطيع أن أتوقف عن الكتابة عنك؟ بالطبع لا.. أوف كورس.. بل لما أكتب عنك أكتب عنّى.. لكن لماذا كسرت بقلبى ولم تنتظرنى آتى إلى بيروت مع سعد حاجو ونعرض المسرحية وأقولك عبارة حفظتها لتلك اللحظة؛ كنت أتخيل أننى أشير لسعد وأقول لك: أنت كتبت نصا ومثل هو فى مسرحيتك بدور مواطن سورى.. وأنا وهو كتبنا نصا سيمثله كمواطن سورى وأرجعه دمشقه بعدما لف العالم.. الحاصل أننا زملاء يا زياد! هنا ستضحك وقد تسبّ.. ونضحك.. ولن أعتب كثيرا فلقد مللت من العتاب.. لأنك قلتها يوما.. أن فيروز قالت لك: أنك بلا تربايه!.. ولن أزيد على كلام السيدة شيئا.. الله يصبّرها ويكون بعونها.. ولن أسألك مجددا السؤال البليد الذى أتعبنى تكراره.. لن أزيد إلا..: الله يسامحك يا زياد..