لطالما هيمنت الدبابات والجنود على ساحات المعارك، ولكن الأمر يتحول الآن، وبشكل متزايد، للطائرات المُسيّرة، وأنظمة الروبوت والذكاء الاصطناعي، في وقت يدلف فيه العالم إلى حقبة جديدة تقرر فيها التكنولوجيا موازين القوى.
وقال وزير الداخلية الألماني ألكسندر دوبريندت الشهر الماضي: "نحن في سباق تسلح تكنولوجي بين تهديدات الطائرات المُسيّرة، والدفاع ضدها – سواء في المجال الهجين أو العسكري". وبدت هذه التصريحات استشرافية إلى حد ما.
وأثارت انتهاكات المُسيّرات الروسية المجال الجوي لبولندا ورومانيا وإستونيا خلال الأسبوعين الماضيين قلقا بالغا لدى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسلطت الضوء على مدى جاهزية الحلفاء لخوض حرب الطائرات المُسيّرة.
وردت بولندا بإسقاط بعض الطائرات المُسيّرة، بمساعدة حلفائها في الناتو، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ تم تدمير مُسيّرات روسية في الجو فوق أراضي الدول الأعضاء بالناتو.
وبشكل مماثل، جرى رصد طائرات مُسيّرة فوق عدة مطارات في الدنمارك والنرويج هذا الأسبوع. ورغم عدم وجود أدلة، حتى الآن، تربط هذه الحوادث بروسيا، أشارت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى "نمط من النزاع المتواصل على حدودنا".
"حائط الطائرات المُسيّرة" في طور التكوين
لقد دفعت التهديدات المتنامية المفوضية الأوروبية إلى اقتراح إقامة ما يعرف باسم " حائط الطائرات المُسيّرة" بطول الجناح الشرقي للناتو. وفي خطاب حالة الاتحاد هذا الشهر، قالت فون دير لاين إن الاتحاد الأوروبي "يجب أن يستجيب لنداء أصدقائنا في البلطيق، ويقيم حائطا للطائرات المُسيّرة ".
وأضافت: "هذا ليس طموحا مجردا. بل هو أساس الدفاع الموثوق."
وقال جوندبرت شيرف، الرئيس التنفيذي لشركة "هيلسينج" الألمانية المتخصصة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في مجال الدفاع، في مارس الماضي إن " حائط الطائرات المُسيّرة "، يمكن أن يُقام في غضون عام"، مضيفا أن ذلك يتطلب "أنظمة استطلاع وأقمارا اصطناعية، وربما طائرات استطلاع مُسيّرة."
ولكن المفتش العام للجيش الألماني كارستن بروير، حذر من أنه سوف يكون من قبيل "الخطأ"، التغاضي عن التهديدات الأخرى.
وقال بروير: "لا يجب أن نقول إننا سنركز فقط على الطائرات المُسيّرة، فمع أهميتها القصوى لقدرتنا الدفاعية، ما زلنا نواجه تهديدات من الصواريخ المجنحة (كروز)، والصواريخ والطائرات".
ويرى شيرف أن تجربة أوكرانيا أظهرت أن الدول الغربية بحاجة إلى شكل جديد من الردع على جبهتها الشرقية، حيث إن الطائرات المُسيّرة ليست بديلا عن الدبابات والمدفعية، وإنما هي مكمل ضروري وفعّال من حيث التكلفة.
ولم تُعلن المفوضية تفاصيل خطط "حائط الطائرات المُسيّرة".
واستضافت العاصمة البلجيكية بروكسل يوم الجمعة اجتماعا لمناقشة المقترح شاركت فيه 9 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي – بلغاريا، وإستونيا، ولاتفيا، وفنلندا، وليتوانيا، وبولندا، والدنمارك، وسلوفاكيا ورومانيا – إضافة إلى أوكرانيا كدولة مرشحة لعضوية التكتل.
وقد وافق وزراء دفاع الدول المشاركة على المضي قدما في تنفيذ مقترح إقامة " حائط الطائرات المُسيّرة "على حدود بلادهم مع روسيا وأوكرانيا.
وقال مفوض الدفاع الأوروبي أندريوس كوبيليوس، الذي ترأس الاجتماع الافتراضي للدول العشر، الواقعة على الجانب الشرقي لأوروبا،:" إن روسيا تختبر الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ويجب أن يكون ردنا حازمًا وموحدًا وفوريًا".
وأضاف كوبيليوس، إن إقامة الحائط المضاد للمُسيّرات قد يستغرق عاما، وإن مبعوثين من الدول المعنية سيجتمعون قريبا لوضع "خارطة طريق تفاهمية وتقنية مفصلة" للمستقبل.
ومن المرجح أن يناقش قادة التكتل إقامة الحائط المضاد للمُسيّرات في قمة كوبنهاجن التي ستعقد الأسبوع المقبل، وفيما بعد في أكتوبر، مرة أخرى عندما يجتمعون في بروكسل.
تخلف أوروبا في مجال الابتكار
يبحث الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء سبل لتعزيز صناعة الدفاع المتأخرة لديهم، بما يشمل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والإنتاج السريع لطائرات مُسيّرة جديدة.
وقال مفوض الدفاع كوبيليوس إنه يتعين على التكتل أن يتعلم من أوكرانيا، مضيفا "علينا أن ننسى وادي السيليكون – فهو ينتمي للماضي. أوكرانيا هي المستقبل."
وتتعرض أوكرانيا منذ شهور لهجمات شبه ليلية بمئات المُسيّرات الروسية. ومن أجل التصدي لها، قامت كييف بتطوير أدوات منخفضة الكلفة مثل أجهزة التشويش الإلكتروني وطائرات اعتراض مُسيّرة. ووفقا لتحليل وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب) لبيانات سلاح الجو الأوكراني، يتم إسقاط أكثر من 80% من المُسيّرات الروسية.
وفي المقابل، لم يتمكن الناتو من تحييد سوى أقل من خمس طائرات من أصل عشرين دخلت الأجواء البولندية مؤخرا.
ويرى مراقبون في أوكرانيا أن استخدام المقاتلات وإطلاق الصواريخ لإسقاط الطائرات المسيّرة يُعد أسلوبا قديما ومكلفا للغاية.
وقال كوبيليوس: "ليست لدينا قدرات أوكرانيا لمواجهة غزو بالطائرات المُسيّرة".
وأشار رئيس منتدى صوفيا للأمن، يوردان بوجيلوف، إلى أن هناك ثلاث شركات أوروبية فقط ضمن أكبر 50 شركة تكنولوجيا في العالم، مما يجعل القارة سوقا استهلاكية أكثر منها رائدا في مجال الابتكار.
وأكد أن أوروبا تتحرك ببطء شديد، ودعا بلغاريا إلى دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، خاصة الناشئة التي تقوم بتطوير تقنيات ناشئة مثل الطائرات المُسيّرة وأنظمة الدفاع ضدها، والذكاء الاصطناعي والروبوتات.
مبادرات أوروبية جديدة
وشدد بوجيلوف على الحاجة الماسة لنظم دفاع، فعالة، مضادة للمُسيّرات، وحذر من أن الطائرات المُسيّرة الرخيصة والمتاحة على نطاق واسع لا تمثل خطرا من الدول فحسب، بل أيضا من الإرهابيين والأفراد ذوي النوايا السيئة.
ورغم ذلك، لم تقف أوروبا مكتوفة الأيدي، حيث إن هناك مبادرات جديدة تهدف إلى وضع الصناعة الأوروبية في مجال الطائرات المُسيّرة على الخريطة.
وتقدم جمهورية التشيك مثالا بارزا في هذا الشأن، حيث يعمل مهندسون بالتعاون مع الجامعة التقنية في العاصمة براغ على تطوير نظام يحمل اسم "إيجل-1"- وهو نظام ذاتي لاصطياد المُسيّرات.
و"إيجل-1" نظام قادر على توظيف الذكاء الاصطناعي لاعتراض الطائرات المُسيّرة، غير المصرح لها، من أجل حماية المجال الجوي، دون تدميرها. ويبلغ وزن "إيجل-1" حوالي15 كيلوجراما، ويستطيع الطيران بسرعة تصل إلى 100 كيلومتر في الساعة. وهو يتعامل مع الأهداف المتحركة التي لا يمكن التنبؤ بها، ويمكنه التقاط عدة مُسيّرات في مهمة واحدة وفقا للمطورين.
كما سعت هيلسينج الألمانية إلى تعزيز التعاون الدولي في هذا المجال، حيث أقامت شراكة مع شركة الفضاء الفرنسية الناشئة "لوفت أوربيتال" لمراقبة الحدود وتحركات القوات باستخدام الأقمار الاصطناعية.
كما أن هناك استعدادات، بالتعاون مع شركة "ساب" السويدية للتكنولوجيا المتقدمة، والمتخصصة في مجالات الدفاع والفضاء والطيران، لتزويد المقاتلات "جريبن" السويدية -خفيفة الوزن، ذات محرك واحد ومتعددة المهام- بتطبيق يعمل بالذكاء الاصطناعي للقتال الجوي.
وفي مايو الماضي، كشفت هيلسينج النقاب عن مُسيّرة تحت الماء لحماية السفن والبنية التحتية الحيوية، وأطلق عليها اسم "إس جي-1 فاثوم" وهي قادرة على القيام بدوريات "لمدة تصل إلى ثلاثة شهور في البحث عن التهديدات تحت الماء"، بحسب بيان صحفي للشركة.
وفي فرنسا، أكدت شركة "رينو" لصناعة السيارات أنها تلقت طلبا من وزارة القوات المسلحة لإقامة مصنع في أوكرانيا لإنتاج مُسيّرات للجيشين الأوكراني والفرنسي.
وفي وقت سابق العام الجاري، أعلنت الوزارة أنها تريد إشراك سلاسل صناعية مدنية، خاصة من قطاعي تصنيع السيارات، والكيماويات، لإنتاج بعض المعدات العسكرية على نطاق واسع. وكان أحد هذه المشاريع يتضمن تصنيع طائرات مُسيّرة، "عدة آلاف خلال بضعة شهور"، وفق ما صرح به مدير التسلح إيمانويل تشيفا آنذاك.
وفي سلوفينيا، تعد الطائرات المُسيّرة وأنظمة الحماية منها ضمن أبرز منتجات الصناعة الدفاعية المحلية. وفي الأونة الأخيرة، أطلقت ليوبليانا شركة دفاع مملوكة للدولة تحمل اسم "دوفوس"، في خطوة تهدف إلى تعزيز الصناعة المحلية والحصول على حصة أكبر من أموال الدفاع الأوروبية المتزايدة.
وتسعى رومانيا، أيضا، إلى تعزيز صناعتها الدفاعية، بما يشمل المُسيّرات، وأنظمة الحماية منها، عبر مبادرة "الإجراءات الأمنية من أجل أوروبا"، وهي أداة مالية أوروبية توفر ما يصل إلى 150 مليار يورو (175 مليار دولار) في شكل قروض.
وتهدف رومانيا من خلال المبادرة إلى إقامة مصنع للطائرات المُسيّرة بالشراكة مع أوكرانيا أو بعض الشركات الأوروبية، إضافة إلى استغلال احتياطياتها غير المستغلة من الجرافين – المادة المعروفة بقوتها وخفتها ومرونتها الفائقة.
ويسعى الاتحاد الأوروبي من خلال مثل هذه المبادرات إلى تهيئة الساحة لحقبة جديدة من الدفاع في القارة.