بعد شهور من المفاوضات الشاقة أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يوم الأحد الماضي التوصل إلى اتفاق يستهدف تجنب حرب تجارية أوسع بين أكبر اقتصادين في العالم. ويسمح الاتفاق للولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية بنسبة 15% على كل وارداتها تقريبا من الاتحاد الأوروبي، وهو نصف الرسوم التي هدد ترامب بفرضها، لكنها تعادل حوالي ثلاثة أمثال الرسوم الحالية البالغة 8ر4% في المتوسط.
وفي تحليل نشره مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي قال ماتياس ماتيس الزميل البارز في البرنامج الأوروبي بمجلس العلاقات الخارجية، إن المفاوضات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لإيجاد توازن سياسي جديد في علاقاتهما التجارية، كانت أشبه برحلة مثيرة منذ أن فرض ترامب ما يسمى بالرسوم الجمركية المتبادلة في حديقة الورود بالبيت الأبيض يوم 2 أبريل الماضي وهو اليوم الذي أطلق عليه "يوم التحرير".
وتعامل الاتحاد الأوروبي مع المفاوضات انطلاقًا من مبدأ أن أي اتفاق مع الأمريكيين يجب أن يكون عادلاً ومتوازنًا، وأن يأخذ في الاعتبار تساوي حجم اقتصاد كلا الجانبين تقريبًا. لذلك، سارع مسؤولو الاتحاد الأوروبي إلى رفض الاتفاق الذي أبرمته بريطانيا مع الولايات المتحدة في مايو الماضي، واصفين إياه بأنه "اتفاق سيء"، واعتبروا الرسوم الجمركية البالغة 10% التي فرضتها الولايات المتحدة والتي وافقت عليها بريطانيا غير مقبولة. ولكن بعد أن هدد ترامب بفرض تعريفة جمركية بنسبة 50% على الاتحاد الأوروبي في أواخر مايو، غيّر الاتحاد الأوروبي موقفه واستسلم للطبيعة غير المتكافئة لأي اتفاق مستقبلي، والسماح للولايات المتحدة بتحقيق مكاسب كبيرة والحصول على تنازلات واسعة من حسابه.
وبحسب ماتياس ماتيس وهو أستاذ مساعد للاقتصاد السياسي الدولي في جامعة جونزهوبكنز الأمريكية فإنه مما زاد الأمور تعقيدًا انقسام دول الاتحاد الأوروبي حول التكتيكات المتبعة. ففي حين فضّلت فرنسا وإسبانيا نهجًا أكثر صرامةً مع رد فوري بعد فرض رسوم جمركية جديدة، حثّت ألمانيا وإيطاليا على توخي الحذر وأهمية التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة. وقد انتصر المعسكر الأخير وبدأ الاتحاد الأوروبي تقديم التنازلات مثل خفض الرسوم الجمركية على السيارات الأمريكية؛ وتخفيف الحواجز غير الجمركية على الشركات الأمريكية؛ وزيادة مشترياته من الغاز الطبيعي المسال الأمريكي والأسلحة والمنتجات الزراعية؛ وزيادة الاستثمارات الأوروبية الخاصة في الاقتصاد الأمريكي.
والحقيقة هي أن ردود فعل قادة دول الاتحاد على الاتفاق الذي أعلنته مع ترامب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين كانت متباينة فرحب العديد منهم به وانتقده البعض بشدة.
وجاء أقوى انتقاد من جانب رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان عندما قال: "هذا ليس اتفاق، لقد التهم الرئيس الأمريكي أورسولا فون دير لاين على الإفطار"، واصفا فون دير لاين بأنها "مفاوض من الوزن الخفيف"، مقابل ترامب وهو "مفاوض من الوزن الثقيل"، مشيرا إلى أن بريطانيا حصلت على اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة أفضل مما حصل عليه الاتحاد الأوروبي.
فمن الواضح أن عددا قليلا جدًا من قادة الاتحاد الأوروبي على استعداد للسير في طريق تصعيد حرب الرسوم الجمركية مع واشنطن. ووجدت ألمانيا عزاءً في انخفاض الرسوم الجمركية على السيارات من 5ر27% كان ترامب يهدد بفرضها إلى 15%، في حين لا تزال فرنسا وإيطاليا تعملان على تأمين إعفاءات للنبيذ والمشروبات الروحية ومنتجات تصديرية مهمة أخرى. وفي بلجيكا وأيرلندا، يشعر صانعو السياسات بالارتياح لأن منتجات بلديهما الدوائية لن تواجه تعريفة جمركية أعلى من 15% بمجرد دخول التعريفات القطاعية الجديدة (بموجب المادة 232) حيز التطبيق.
وبغض النظر عن ارتياح العديد من قادة الاتحاد الأوروبي للاتفاق ، فهناك إدراك بأن الاتحاد الأوروبي قد رضخ لنزوات رئيس أمريكي متقلب، سواء فيما يتعلق بالإنفاق الدفاعي لحلف الناتو أو الآن أيضًا بالنسبة للتجارة الدولية،على حد قول ماتيس.
لقد انتقل الأوروبيون من العيش في قارة آمنة ومزدهرة بفضل هيمنة أمريكية حميدة، إلى العيش في قارة أكثر خطورة وغموضًا وبتكلفة باهظة يدفعونها لصالح واشنطن. و يعتقد العديد من القادة أن الجهود المبذولة على مستوى الاتحاد الأوروبي لتطوير أدوات أكثر استراتيجية - بما في ذلك أداة مكافحة الإكراه التي كثر الترويج لها - لم تسفر عن علاقة أكثر توازناً مع الولايات المتحدة. بل إن نتائج قمة حلف الناتو في لاهاي واتفاقية التجارة الأخيرة تجعل أوروبا أكثر اعتمادًا على الولايات المتحدة. فبينما كان الأوروبيون في العقدين الأول والثاني من القرن الحالي يعتمدون على روسيا للحصول على احتياجاتهم من الطاقة وعلى الولايات المتحدة لحماية أمنهم ونموهم الاقتصادي من خلال التصدير إلى وإلى الصين، فإنهم اليوم يعتمدون على الولايات المتحدة في هذه الأمور الثلاثة.
وتتسم "اتفاقيات" التجارة مع ترامب بأنها ليست "اتفاقيات" تجارة حرة تقليدية - تستغرق سنوات للتفاوض عليها بتفاصيل دقيقة - بل هي مجرد تعهدات (غالبًا ما تكون غير مكتوبة أو مبنية على مصافحة بسيطة) يتعين العمل عليها لاحقًا أو إعادة النظر فيها مستقبلًا. وكثيرًا ما يختلف تفسير الجانبين جوهريًا لما تم الاتفاق عليه.
على سبيل المثال، أكد الاتحاد الأوروبي بسرعة أن الرسوم الأمريكية الجديدة المقررة بنسبة 15% هي مجرد حد أقصى للرسوم، في حين تحتفظ إدارة ترامب لنفسها دائما بالحق في زيادة هذه الرسوم في المستقبل. كما تم الإبقاء على الرسوم على الصلب والألومنيوم عند مستوى 50% حتى يتم الاتفاق على آلية للتعامل مع أزمة فائض الإنتاج العالمي من الصلب، وهو ما يعني بشكل أساسي تقارب أكبر بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالأمن الاقتصادي والسياسة تجاه الصين.
أخيرا يمكن القول إن الاتفاق يجعل الاتحاد الأوروبي أكثر اعتمادا على الولايات المتحدة في كل من التجارة والدفاع على المدى القصير على الأقل. وفي حين سارعت المفوضية الأوروبية وكبار قادة الاتحاد الأوروبي بتأكيد أن هذا الاتفاق هو أفضل ما يمكن الحصول عليه، ستكون هناك انتقادات واسعة من جانب أحزاب المعارضة في كل دول الاتحاد وبخاصة من جانب الأحزاب المناوئة للوحدة الأوروبية سواء من اليمين أو اليسار. وستقول أحزاب اليمين إن الاتحاد الأوروبي لم ينجح في القيام بدوره وأنه في مقدور كل دولة التفاوض بشكل أفضل للحصول على اتفاق تجاري منفصل مع الولايات المتحدة كما فعلت بريطانيا.