لعبة الهزائم والاحتمالات! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 2 فبراير 2025 7:50 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

لعبة الهزائم والاحتمالات!

نشر فى : السبت 1 فبراير 2025 - 6:45 م | آخر تحديث : السبت 1 فبراير 2025 - 6:45 م

أجمل ما فى هذه الرواية أنها تفتح على قراءات ثرية، رغم أنها تنطلق من حدثٍ واحد يمر بشكلٍ عابر عند الكثيرين، ولكن شخصية بطل الرواية وساردها، وهو أيضًا ابن جيله وزمنه بامتياز، أخذتنا إلى هذه الآفاق الواسعة. الرواية الصادرة عن دار الشروق بعنوان «الحب عربة مهترئة»، ومؤلفها الروائى الجزائرى أحمد طيباوى الذى حصدت أعماله جوائز معتبرة، مثل «باب الوادى» الفائزة بجائزة أفضل كتاب عربى من معرض الشارقة، ورواية «اختفاء السيد لا أحد»، الفائزة بجائزة نجيب محفوظ للأدب من الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

تميّز طيباوى سببه تعبير أعماله بقوة عن الذات والجيل معًا، أو فلنقل إنه ما كان يمكن أن يعبّر عن جيله فى الجزائر، لو لم يكن يمتلك هذه الرؤية التى تعبّر عن ذات قلقة، متأملة، وعالقة بين ماضٍ ملتبس، وحاضر مضطرب، ومستقبل غامض.

خذ مثلًا هذه الرواية، وتأمل هذا العنوان الذى يقرر قاطعًا عدم صلاحية الحب لكى ينقل الإنسان إلى حالة أفضل، ارتباطا بحال بطل روايتنا نفسه، الذى يقول إنه لم يجنِ من الحب سوى الألم، ليس فقط بما نتوقعه من فشل مع فتاة أحبها، ولكن أيضًا فى كل الاتجاهات، الخاصة والعامة.

ولكن الرواية ليست فقط عن ثنائية الحب والكراهية، وثنائية الحب والموت، ولكنها تأخذ أيضًا مستوى أعمق بكثير، عندما تختبر فكرة الجبر والاختيار، والمفروض والممكن، والبطل هو الوحيد فى النصّ الذى لا يحمل اسما، انعكاسًا ربما لذات مهمشة لا تظن أنها جديرة بالذكر، أو تعبيرًا ربما عن جيل «اللا أحد»، أو كما يصفه السارد بأنه «جيل الخيارات المحدودة».

الآن، وفى لحظة فارقة بين الموت الحياة، يختار هذا الشاهد المتأمل أن يجرى عملية فى القلب، نسبة نجاحها مرتفعة، والطبيب الذى سيقوم بها مشهور ومتمكّن، والأمر يحدث يوميا مع كثيرين، ولكن هذه اللحظة وحدها ستفتح باب الأسئلة، وستجعل صاحب العملية يحكى ويراجع كل ماضيه، ويحاكم الجميع، بمن فيهم نفسه وذاته، ولذلك سيستأثر بالسرد من البداية حتى النهاية.

أتاحت هذه اللحظة، بالإضافة إلى مراجعة الماضى، تأمل الحاضر القلق والمضطرب، وتخيّل المستقبل الغامض عبر احتمالين: ماذا يحدث لو فشلت العملية ومات السارد؟ وماذا يحدث لو نجحت العملية واسترد الرجل ذو الواحد وأربعين عاما قلبا جديدا بدلا من قلبه المعطوب؟

هنا لعبة ماكرة حقا: بطل مهزوم يعتبر نفسه ضحية تحكم وسلطة الأب، ولكنه سيستنسخ الأب بدوره فى أحكامه القاسية، وبطل يعترف بالقهر والخضوع للظروف، بل والضعف فى الدفاع عن حكاية حبه الوحيدة، وفى مواجهة غريمه الذى ينافسه فى الاستئثار بزوجته، وفى الحفاظ على ابنته الصغيرة، ولكن هذا البطل محدود الخيارات، بل معدومها فى الواقع، سيعوّض ذلك بالخيال، الذى سيأخذه إلى كل الخيارات الممكنة.

كأن الرواية، وبطلنا قارئ للروايات أجبر على دراسة الرياضيات، تستعيد الحرية ولو على الورق، وتنتقم ممن جعلوا السارد مقهورا ومهزوما، ولم يكلفه ذلك سوى أن يسأل: «ماذا لو؟»، و«ماذا لو لم؟»

وبينما يبدو السارد ضحية الحب الذى أورثه الخيبات فى كل الاتجاهات، فإن الموت، نقيض الحب، هو الذى سيفتح له باب تأمل حياته بشكل أعمق، بل وتأمل الموت نفسه باعتباره نوعا من الحياة الأكثر حريّة.

وفى حين تبدو الحياة مثل فرصة ضائعة، فإن الموت فى هذا النص المركّب، يصبح بديلا موازيا، سواء للانتقام الافتراضى، أو لإصلاح ما صار مهترئا، تماما كعملية القلب العليل تحت مشرط الجرّاح.

لم يكن ممكنا إدارة لعبة الهزائم والاحتمالات هذه، لولا الرسم البارع لكل شخصيات الرواية، وليس السارد فقط، مثل شخصية الأب العاطل عن الموهبة، والذى يترجم حبه لابنه الوحيد إلى سيطرة، ومثل الأم البسيطة التى تحملت حياة بلا طعم، وزوجة الأب الطيبة والحنون، والزوجة التى يشك السارد فى خيانتها، ويخمن أنها تريد العودة لزوجها السابق، رجل الأعمال المنحرف، ومثل نجاة حبيبة الماضى، والصديق الوحيد عمّار، الذى يبدو مستسلما لقدره، وحتى طبيب القلب، واثنتين من الممرضات، والمريض الذى يدعى سعيد، كل هؤلاء رسموا بصورة حيّة ونابضة.

فى صميم اللعبة أن ينقسم بناء الرواية بين سيرة الماضى، حيث انعدمت الخيارات، وصارت الذات مهترئة مثل قلب السارد، وبين لعبة مضادة يتخيل فيها السارد مستقبله لو فشلت العملية أو لو نجحت، ثم فصل أخير يعيدنا إلى لحظات ما قبل العملية، ولكن بعد أن استنار السارد، واكتشف ذاته والآخرين.

ما زال الرجل معلّقا بين الماضى والحاضر والمستقبل، ولكنه صار قادرًا على استعادة الاختيار، سواء بقرار إجراء العملية، أو بخيال مبتكر تردّ فيه الرواية على الواقع، أو بحالة من التعالى على الظرف، مهما كانت النتائج، أو كما يقول السارد: «بالنسبة للغريق، ليس للبحر حسنات».

جعل الحكى المهزوم قادرًا، ولو إلى حين، وفتح الجحيم على الآخرين فى حركة مضادة، وتحولت الحتمية، بل والموت نفسه، إلى أبواب تفتح على ممكنات أخرى، وصارت تكلفة الفرصة الضائعة احتمالات مفتوحة، وانتقل السارد من خانة التفرج على حياته، إلى الفاعل الافتراضى، واندمج السياسى مع الاجتماعى مع النفسى فى سبيكة واحدة، ذلك أن التمرد على الأب البيولوجى، سيقود إلى تمرد أوسع على كل آباء السياسة والبزنس الكاذبين والفاسدين، وهكذا أيضًا «تشكّل الرواية الحياة على منوال لم نضع له احتمالًا أبدًا».

فى زمنٍ لا يكتمل فيه الحب الحقيقى، ويجد الفرد نفسه فى دوامة إشباع البطن، والرضوخ لأمنيات الآباء، والإدانة من زملاء العمل، يبقى الأمل فى الابنة زهراء، وتبقى النجاة فى الحبيبة نجاة، ويبقى الأب فى السماء، ملجأ وملاذًا، لاختيار الأفضل والأصلح.

عمليات كثيرة يجب إجراؤها لكى تستقيم الحياة، وليس فقط عملية ذلك المنتظر مصير قلبه، بين يدى جراح ماهر، أخذ الموت ابنته، وتركه يساعد الآخرين، على استكمال حيواتهم الصعبة.

 

 

 

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات