العقم مر كالعلقم، وهو من أكبر البلاءات التى تحل بالأسرة الصغيرة والكبيرة، وقد جعل الله نبى الله يوسف «عليه السلام» حجة على كل سجين ليصبر ويحسن، وجعل أيوب حجة على كل مريض ليصبر ويرضى، وجعل يحيى بن زكريا السيد الحصور حجة على كل عقيم، فقد اختاره وخلقه الله كذلك لا يتزوج ولا ينجب فى حين أن الأصل فى الأنبياء أن لهم أزواجا وذرية لكى لا يزهد الصالحون فى تعمير الكون عن طريق الزواج الصالح والذرية الطيبة.
وأصعب لحظة فى حياة المريض حينما تصارحه بأن حالة العقم لديه لا أمل فيها ولا جدوى منها طبيا، وأن عليه أن يوفر وقته وجهده وماله لأمور أخرى قد تفيده، وأن حالته تدخل فيمن قال الله عنهم «ويجْعل منْ يشاء عقيما»، وأحيانا تجد الرجل يبكى حينما يعلم ذلك، وبعض الرجال يخفى حزنه وكربه وكأن ذلك نقصا فى رجولته ناسيا أن السيد الحصور يحيى خلقه الله كذلك.
والمرأة فى هذا الأمر أكثر وفاء وصبرا وتحملا من الرجل، فهى عادة لا تطلب الطلاق إذا كان العيب من زوجها، وتصبر على قدرها ونصيبها من الحياة وخاصة إذا كان زوجها يعاملها معاملة كريمة، وقد لا تفشى سره إكراما له، وقد تنسب العيب لنفسها حرصا على مشاعره، وقد يقبل ذلك الكذب ويشيعه ويظهر إحسانه كذبا وزورا فيصدق الكذبة التى أطلقها.
والرجل فى غالب الأحيان أقل صبرا ووفاء وأعجل من غيره فى طعن زوجته طعنة نافذة فى قلبها بطلاقها أو السعى فى الزواج من أخرى، أما الرحيم منهم فهو الذى يبقى عليها كزوجة ويتزوج عليها، إما أن يستمر معها وحدها كزوجة رغم أن العيب منها فهو نادر فى حياة الرجال، رغم أن الأمومة فى المرأة أصيلة منذ ولادتها، أما الرجل فلا تتفجر أبوته إلا حينما يولد ابنه، هكذا قال العلم.
وكم طرحت على الأزواج الذين لا أمل لديهم فى الإنجاب فكرة تبنى طفل يتيم من الملجأ، بحيث يفرغ الزوج فيه مشاعر الأبوة، وتفرغ الزوجة من خلاله مشاعر الأمومة وينفعان اليتيم فى صغره وينفعهما حينما يكبر ويبلغ أشده فيرد الجميل لهما، وإن لم يرد الجميل لهما فيكفى أنهما وضعا اليتيم على أول الطريق الصحيح وأنقذاه من المجهول والضياع وطرق الفساد.
وأقول لهما: كلنا عيال الله، ونحن لا ندرى من سينفعنا من خلق الله، وقد يكون هذا اليتيم أنفع لك من ابنك الذى تنجبه من صلبك وأكرر عليهم مرارا قوله تعالى «آباؤكمْ وأبْناؤكمْ لا تدْرون أيهمْ أقْرب لكمْ نفْعا».
وأكرر عليهما: أن اليتيم الذى تكرمه وترعاه وتربيه قد يكون أفضل وأرق وأرحم بك من ابنك، فابن سيدنا نوح لم ينفعه، وزوجة لوط ونوح «عليهما السلام» كانا ضد أزواجهما من الأنبياء وحاربا دعوتهما.
كنت دوما أرى اعتراضات على اقتراحى هذا، تارة من الزوج وأخرى من الزوجة دون أسباب منطقية سوى الرضى بالعيش فى العذاب والألم والوحدة.
تذكرت كل هذه المعانى وأنا أشاهد الحلقة الرائعة من البرنامج الاجتماعى المتميز «معكم» الذى تقدمه الإعلامية منى الشاذلى على قناة CBC والتى استضافت السيدة الكريمة/ فتحية زوجة الحاج/ عبدالعال، وقد تزوجا منذ 35 عاما لكنهما يدخلان أو أحدهما تحت باب قوله تعالى «ويجعل من يشاء عقيما».
وقد فتح الله على الزوجين من أبواب الرزق والسعة والمودة والمحبة والألفة ما جعل هذه المشكلة لا تفرق بينهما، بل زادا فى الإحسان بأن أخفيا عن الجميع هوية المتسبب منهما فى حالة العقم، وكانت أسرتهما على مستوى المسئولية بحيث رفضت أن تسألهما عن سر يخصهما وحدهما فى المقام الأول.
وقد فكر الزوجان فى طريقة لبث مشاعر الأمومة والأبوة فى أطفال آخرين، فقاما بتبنى 34 طفلة صغيرة من الملجأ، وكأن الله رزقهما فى كل عام من أعوام زواجهما بطفل وذلك فى سابقة هى الأولى فى العالم العربى كله.
هكذا قالت الحاجة فتحية فى حوارها وهى باكية، 34 طفلة أصبح لهن مأوى وسكن رائع وطعام جيد وتعليم فى مدارس اللغات وأم وأب يسهران على راحتهن، يأتين من المدرسة فيجدن الطعام جاهزا كما ذهبن ومعهن الساندويتشات والمصروف مع الحنان والعطف.
مشاعر رائعة بين الحاجة فتحية وبناتها الـ34، أحضان، بكاء، أشواق، غناء، موالاة، مودة، حب.
هكذا استطاع البرنامج المتميز «معكم» أن يصدره للناس ليقدم نموذجا عظيما فى العطاء الإنسانى، وليقول للناس: إن أبواب الحسنات لا تحصى ولا تعد، وباب الإحسان للخلق أوسع من أن يغلقه أحد.
وأن من يرحم الناس يرحمه الله، وأن كافل اليتيم مع النبى الكريم فى الجنة كإصبعين لا يفترقان، كما جاء فى الحديث الشريف «أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى»، سلام على الرحماء.. سلام على من يكفل الأيتام.. والويل كل الويل لمن يأكل أموال اليتامى ظلما.. وتحية للحاجة فتحية وزوجها.. وسلام على كل من يدعو إلى الخير ويقدم نماذجه للناس، ويرقق قلوبهم، ويحببهم فى الخالق سبحانه، ويقربهم إلى خلقه.