منذ 13 أكتوبر، خصص الرئيس بوتين، فى زيارته إلى بيشكيك، وهى الزيارة الأولى التى يجريها منذ صدور قرار اعتقال دولى ضده من جانب المحكمة الجنائية الدولية، خطابه للنزاع القائم بين إسرائيل والجانب الفلسطينى، وقال فيه أن السبب الأساسى للأحداث هو «إخفاق سياسات الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط».
التوتر القائم فى الإقليم يخدم المصلحة الروسية كثيرًا؛ إذ يؤدى إلى تقسيم الغرب، ويشيح بانتباهه وموارده الهائلة عن الحلبة الأوكرانية، ويطرح معضلات غير سهلة بشأن أولوية الميادين؛ أى هل يجب مواصلة وزيادة الدعم لأوكرانيا، حتى لو كان الثمن الاقتصادى لذلك هائلًا، ودخول فى مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، أم يتوجب على الغرب تحويل انتباهه الكامل إلى الشرق الأوسط. يشعر بوتين جيدًا بهذه المعضلة، ويقوم باستغلال انعدام قدرة الغرب على اتخاذ قرار؛ فعلى مدى نصف العام الماضى، تقدّم الجيش الروسى فى أغلبية الجبهات فى شرق أوكرانيا، ونجح فى استغلال الفرصة. والآن، يتلقى الأوكران سلاحًا ومالا أقل مما هم فى حاجة إليه، بل أيضًا لم يتحقق ما وعدهم به الغرب فى السابق حتى الآن. وهناك مساعدات تبلغ قيمتها عشرات المليارات من الدولارات تمت المصادقة على تحويلها مؤخرًا فى الكونجرس، وحصلت على موافقة من الرئيس بايدن، وعلى الرغم من هذا، فإن أوكرانيا لم تتلقَ حتى الآن أسلحة أو مساعدات بكمية تمكّنها من تغيير اتجاهات الحرب.
عمليًا، هناك موضوعان يؤثران فى تشكيل العلاقات بين روسيا وإسرائيل: الحرب فى أوكرانيا، والتحالف السياسى مع إيران، وكلاهما يشكل تهديدًا حقيقيًا على أمن إسرائيل القومى. فقبل عامَين، وخوفًا من ردة فعل روسية، التزمت إسرائيل الحياد العملى فيما يتعلق بالحرب فى أوكرانيا، وقامت بتوفير المساعدات الإنسانية والمدنية، لكنها تمتنع حتى اليوم من توفير منظومات يمكن للروس أن يعتبروها تجاوزًا للخط الأحمر. كان التوقع الإسرائيلى أن يمتنع الروس من نقل أسلحة كاسرة للتوازن إلى أعدائنا، وقد صرح مصدر إسرائيلى رفيع المستوى فى هذا الصدد: «من الواضح أننا لا نتوقع من الروس أن يكونوا مؤيدين للإسرائيليين، لكن إمكانات الضرر الذى يمكن أن يسببوه لنا لا نهائية.
ولم يتغير هذا الموقف تقريبًا مطلقًا منذ تلك النقطة، إذ لا يوجد أمل فى تحسن العلاقات، إنما فقط محاولات للحؤول دون تدهور الأوضاع. لكن قدرة إسرائيل، عمليًا، على تحديد دينامية هذه العلاقات شديدة المحدودية، إذ يعتبر الروس إسرائيل ليست سوى ملحق عسكرى وسياسى للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، والتعامل معنا مشتق من العلاقات السائدة بين القوتَين العظميَين، وكلما تدهورت هذه العلاقات، انعكس الأمر أيضًا فى العلاقات بين روسيا وإسرائيل.
إن الذى تغيّر على مدار العامَين الماضيَين هو العلاقات بين إيران وروسيا، إذ باتت على مدار هذه الفترة أكثر عمقًا. وإن كلاًّ من الصمت المدوى من جانب بوتين بشأن الهجوم الإيرانى على إسرائيل، و"تفهُّم" الهجوم من جانب السفير الروسى فى الأمم المتحدة، وتجنُّد قنوات الدعاية السياسية التابعة للإدارة الروسية ضد إسرائيل، التى تتعامل بحسب ادعاءات القنوات بـ«معايير مزدوجة»، يثبت أن التحالف القائم بين روسيا وإيران آخذ فى التوثُّق. والتهديد الكامن فى العلاقات الوثيقة بين روسيا وإيران -بالنسبة لإسرائيل- ليس عدديًا فحسب، بل أيضًا هو كمّى قبل كل شىء:
- التعاون فى مجال التسليح: تزوِّد إيران روسيا بطائرات من دون طيار وصواريخ باليستية، ومن المتوقَع أن تزوِّد روسيا إيران قريبًا بطائرات مقاتلة متطورة من طراز «سوخوى 35» من شأنها أن تعمل على تحديث الأسطول القديم للقوات الجوية الإيرانية بصورة كبيرة، ومن الممكن أن تزوِّد روسيا حليفتها بتقنيات متقدمة للدفاع الجوى، وهو ما يمكن أن يحد بصورة كبيرة من قدرات سلاح الجو الإسرائيلى.
- التحالف السياسى والدبلوماسى: لا تزال روسيا إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية فى مجلس الأمن، ويمكنها أن توفر لإيران مظلة دبلوماسية فى شكل عرقلة مقترحات الحلول المعادية لها، كما أن روسيا وإيران تتمسكان بمنظومات اقتصادية وسياسية جديدة كبديل للـ«النظام العالمى الأحادى القطب الذى تهيمن عليه الولايات المتحدة»، وبالإضافة إلى انضمامها إلى «بريكس» فى يناير 2024، أصبحت إيران سنة 2023 العضو الخامس فى منظمة شنغهاى للتعاون.
وفى هذه المرحلة، لا نرى كيف يمكن للديناميات السلبية التى تحكم علاقات إسرائيل مع روسيا أن تتغير، فهناك عوامل كثيرة تدفعنا فى اتجاهين متضادَين. والصين هى الطرف الوحيد الذى لا يزال فى إمكانه، بطريقة معينة، التأثير فى روسيا، لكنها أيضًا لن تقوم بخطوات ذات أهمية حتى بعد الانتخابات فى الولايات المتحدة. ففى نهاية المطاف، تهدد الولايات المتحدة بطرد الصين من الأسواق الغربية، ومن الممكن أن يحدث هذا بالتأكيد إذا أُعيد انتخاب ترامب رئيسا. وفى هذه الحالة، لن يكون لدى الصين ما تخسره، وسوف تكون قادرة على استثمار كل مواردها فى الكتلة المناهضة للغرب.
باختصار؛ ما دامت الحرب فى أوكرانيا مستمرة، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن يستمر تدهوُر العلاقات، وأن يسدَل على العالم ستار حديدى جديد، والرياح التى تهب على العلاقات الدولية أقوى منا. إذًا، فمن الأفضل أن تعتاد تل أبيب فكرة أن أمرًا جديدًا لن يمكنها تحصيله من أكبر دول العالم فى المستقبل المنظور، وليس من قبيل الصدفة أن تهاجم الطائرات من دون طيار الإيرانية كلاًّ من أوكرانيا وإسرائيل، وربما تكون هذه أيضًا فرصة لتذكّر إسرائيل نفسها بالكتلة التى يجب عليها الانتماء إليها، والقيم التى لا يمكنها التخلى عنها.