قرأت رواية «شفيقة القبطية» عام 1961 وكنت فى سن الثانية عشرة، وأدهشنى أسلوب كتابتها وأنا أعرف تماما أن جليل البندارى صاحب الرواية لم يكتب أعمالا أدبية من قبل، فهو كاتب سيناريو وصحفى ومؤلف أغانى. وتحكى الرواية عن بنت من بيئة شعبية تشربت بقوة من المجتمع الذى عاشت فيه. ولا أنسى أبدا جملة الحوار التى قالتها الفتاة إلى القهوجى الذى يغازلها: انت مجرد خادم للى بيطلب منك خدمة، حدث ذلك قبل إنتاج الفيلم الذى أخرجه حسن الإمام بعام 1962، فلما ذهبت للمشاهدة كنت أمنى نفسى برؤية تجسيد كامل للرواية، لكننى صدمت وأنا أرى امرأة مختلفة تماما حيث بدأ الفيلم براقصة فى عز مجدها تمتلك العربات الثمينة والجمال المثير والأنوثة الطاغية، فيتهافت حولها أثرياء القوم من الوزراء وأمثالهم، وكانت مفاجأة الفيلم أن شفيقة لديها ابن قبطى مثلها تحبه ابنة رئيس الوزراء، هذا الابن الذى يكون أداة للانتقام من الأم حين تلاعبت به شفيقة أمام زوجتة الوقور، هذه القصة غير موجودة بالمرة فى الرواية، بما يعنى أن محمد مصطفى سامى كاتب السيناريو قد صاغ الفيلم على هواه وأسلوبه الذى كتب به عشرات الأفلام التى أخرجها له حسن الإمام، وهو ما يؤكد دهشتى من أنه لا علاقة بين الفيلم والرواية.. والغريب أن البندارى الذى كتب قبل ذلك فيلم «الآنسة حنفى» لم يقترب قط من روايته وتركها لغيره ليفعل بها ما يشاء.
الآن، بعد واحد وستين عاما من هذا التاريخ اكتشفت أن هناك تشابها بين القصة السينمائية للفيلم وفيلم أمريكى مشهور بعنوان «كل شىء عن ايفا» إخراج جوزيف مانكفيتش عام 1950 حيث اعتمد الفيلم العربى على الموضوع الرئيسى للفيلم الأمريكى، وهو أن الوصيفة الشابه قد سعت إلى تدمير مجد سيدتها وتدبير المؤامرات كى تحصل على العشيق والمجد الفنى بدلا من سيدتها، وهذا هو ذكاء محمد مصطفى سامى الذى صنع مزيجا سينمائية غريبا يخلو تماما من السيرة الغامضة للراقصة التى كانت ذائعة الصيت فى بداية القرن العشرين، وهكذا كان يجب على الناقد والباحث أن ينتظر كل هذه السنوات كى يعرف بعضا من هذه الحقيقة، فالفيلم يمكن الدخول إليه من عدة نقاط أبرزها هو التعرف على الحياة الاجتماعية الخاصة بالأسر المسيحية فى مصر مثل موقف الأم، فالأم ترفض بشدة أن تسامح ابنتها على امتهان الرقص لكسب المال وتطرد ابنتها التى حاولت أن تمنحها المال لمساعدة ابنها فى المحنة التى أصابت الأسرة، علما بأن هذه هى المرة الأولى التى نرى فيها مثل هذا الأمر، كما أن حسن الإمام حاول ابتداء من 1962 كتابة التاريخ الموازى لمصر من خلال قصة حياة راقصات مثل امتثال ذكى، بديعة مصابنى، وبمبى كشر، كما أن الفيلم يدين السلوك الاجتماعى للرجال الذين حكموا مصر فى بداية القرن، فهذا الباشا يتعمد إخضاع نفسه لجميع رغبات ونزوات عشيقتة الراقصة حتى إذا انتبه أن شفيقة أحضرت زوجته لتراه فى وضع مشين يتحول إلى باشا شرس جدا فيقوم باعتقال ابنها وتفقد المرأة كل مكانتها وثروتها وتتحول إلى مدمنة كوكايين وتتسول ثمن ما تتعاطاه بعد أن صارت معدمة.
ما زالت الأفلام المصرية أمامنا طالما نحن نبحث عن كل شىء غامض بدون تفسير، ولولا أن العمر قد طال بى قليلا ما اكتشفت العلاقة بين شفيقة وإيفا، مثلما حدث منذ عامين حين اكتشفنا أن الفيلم المصرى «السفيرة عزيزة» قد استوحاها الأديب أمين يوسف غراب من الفيلم الأمريكى «الرجل الهادئ» الذى أخرجه جون فورد وقام ببطولته جون واين، وها هى مائدة البحث تتضمن الكثير من المفاجآت.