يقدم لنا ما جرى فى حالة مصنع «موبكو»،نموذجا صارخا لما يمكن أن يفعله «الجهل النشيط» بحياتنا.
طوال شهور عدة، سطّرت آلاف الكلمات عن المأساة التى يعيشها وسيعيشها أهالى دمياط إذا ما تم تشغيل المصنع، وتبارت الصحف فى نشر صور لفلاحين يمسكون بمحاصيلهم وقد تضعضعت أوراقها وذبلت عيدانها، بسبب العوادم الناتجة عنه، وذهب بعضهم إلى مدى أبعد، فتحدث عن الأجنة المشوهة فى بطون الأمهات، وحذّرنا من أجيال تعانى من العته والتشوهات الخلقية بسبب تلك العوادم، وهللت الصحف لجسارة الأهالى وقد خرجوا يقطعون الطرق ويشعلون الإطارات ويعطلون العمل بالميناء ويعزلون مدينة رأس البر عما حولها، حتى نقصت المؤن وبات الناس على شفا مجاعة،فأصدر المشير طنطاوى قرارا بوقف العمل فى المصنع، حماية للناس وللأجنة فى بطون الأمهات.
فى غضون ذلك تم تشكيل لجنة من خبراء وزارة البيئة ورئاسة الوزراء، ثم لجنة أخرى مستقلة شارك فيها المهندس ممدوح حمزة، أثبتت عدم وجود مخالفات بيئية، وأن المصنع يطبق كل إجراءات الحماية، ويمتلك أجهزة الرصد البيئى التى تكشف أى انبعاثات غازية صادرة عن عملية التصنيع، وفى الأسبوع الماضى أصدرت نقابة العلميين تقريرا يؤكد ما ذهبت إليه اللجنتان السابقتان، ويوصى بـ«ضرورة الاحتكام إلى العلماء والخبراء فى تلك القضايا، حتى لا تتوقف عجلة الإنتاج مما يتسبب فى ضعف الاقتصاد الوطنى وتهديد مصير آلاف العمال».
ليست هذه سوى واحدة من كوارث «الجهل النشيط»، سبقتها قضية كنيسة الماريناب فى أسوان، فقد اشتعلت مانشيتات الصحف بعناوين تحرّض على الفتنة، وكيف أن الأقباط فى هذه القرية النائية يحرمون من ممارسة شعائرهم ويضيّق عليهم فى المعايش، وكما تعلم انتهى الأمر بكارثة أحداث ماسبيرو التى راح ضحيتها عشرات الأبرياء، سيقوا إلى حتفهم قبل أن تقرر النيابة أن أمر البناء كان يخص كنيسة أخرى، وأن الماريناب لم يكن بها كنيسة، وإنما مضيفة استخدمها بعض أقباط القرية للصلاة.
الأمر ذاته يجرى بدرجة أكبر من الصخب، حين يرفع أحدهم فى مواجهتك مقولة الحق التى يراد بها باطل «دم الشهداء»، دون أن يميّز بين من استشهدوا فى ميادين الثورة، ومن قتلوا وهم يحرقون أقسام الشرطة ويسرقون ما بها من سلاح.
أو أن يخلط بعضهم بين من يطالبون بتحقيق أهداف الثورة فى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ومن ينادون بهدم الجيش وإسقاط الدولة ومؤسساتها «باعتبارها قيدا على حرية الفرد».
ينتعش الجهل النشيط فى بيئة الصخب، وتتفتح زهوره الشيطانية فى حدائق الغوغائية التى تخاطب غرائز العامة، تماما كما فعل هتلر حين ألهب حماس الألمان بحديثه عن تفوق الجنس الآرى، لكنه قادهم وقاد العالم كله إلى كارثة مروعة.
فى زمن الجهل النشيط يختلط الحابل بالنابل، الناشط السياسى بالإعلامى، والأخير ولاؤه للحقيقة، أما الأول فهدفه الأسمى إدعاء المواقف.
وقانا الله وإياكم شر الفتنة.