عم نجيب.. أسعد الله صباحك - عماد الغزالي - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 11:41 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عم نجيب.. أسعد الله صباحك

نشر فى : الإثنين 31 أغسطس 2015 - 6:55 ص | آخر تحديث : الإثنين 31 أغسطس 2015 - 6:55 ص

ضمن محطات عديدة أفخر بها فى مسيرتى المهنية دون ادعاء مفرط أو تواضع كاذب، ملف من أربع صفحات عن أديبنا الكبير نجيب محفوظ نشر صبيحة يوم وفاته فى 30 أغسطس 2006 بجريدة «الوفد»، وقد حمل هذا العنوان: «عم نجيب أسعد الله صباحك».

ولهذا العنوان قصة تستحق أن تروى، أخبرنى عنها الناقد الراحل فاروق عبدالقادر، مؤداها أن واحدا من مثقفى وسط البلد أمضى ليله كله بين حاناتها، وانتهى به المقام إلى مقهى اعتاد محفوظ أن يقصده كل صباح، حيث يقرأ الجرائد ويشرب أول فنجان قهوة.

كان صاحبنا «سكران طينة»، وبالكاد تعرف على نجيب محفوظ، وما إن لمحه حتى بادره وقد حاول أن يبدو متماسكا وطبيعيا: مساء الخير يا أستاذ، ولما كان الوقت صباحا، ولأن القافية تحكم، فلم يفوّت النجيب الفرصة، ورد عليه وسط ضحكته المجلجلة وببديهة ذكية ساخرة: أسعد الله صباحك.

هذا الملمح فى شخصية الأديب الكبير يعرفه عنه القريبون منه، ولعله الدكتور يحيى الرخاوى هو من ذكر فى تحليله لشخصية محفوظ وأعماله، قدرته الفذة على السخرية، حتى أنه لم يدخل مباراة فى القافية إلا كسبها ودحر منافسه فى دقائق معدودة.
مثل ملايين المصريين، كنت حزينا على رحيل أديبنا الكبير، على الرغم من أن رحيله لم يكن مفاجئا، فقد بقى تحت أجهزة الإعاشة الاصطناعية أياما طويلة، ولم يكن قرار نزعها عنه سهلا لأطباء يعرفون قدره وقيمته، حتى طلبها منهم بنفسه، متوسلا إليهم أن يرحموا جسده الضعيف وأن يتركوه يرقد فى سلام.

لكننى وسط الحزن العميم، كنت فخورا أن عشرات من محبى الأديب الكبيرمن الشباب والشيوخ ومن عامة الناس، كانوا يرفعون الملف وهم يحملون الجسد المسجى إلى مثواه الأخير، وقد تصدرت صفحته الأولى صورة كبيرة للنجيب أسفل هذا العنوان الدال «أسعد الله صباحك»، والذى كان يعنى ببساطة، أنك معنا وإن فارقنا جسدك، معنا بأعمالك العظيمة التى غاصت فى تاريخ المصريين ووجدانهم، وشرّحت بمهارة سلوكياتهم وانفعالاتهم ولحظات نصرهم وانكسارهم.

أذكرك يا صديقى بمحفوظ عبدالدايم فى «القاهرة الجديدة» وأنيس فى «ثرثرة فوق النيل» وسعيد مهران فى «اللص والكلاب» والست أمينة فى «الثلاثية» وصابر فى «الطريق» وكامل رؤبة فى «السراب» وعيسى فى «السمان والخريف» وعثمان بيومى فى «حضرة المحترم» والجبلاوى فى «أولاد حارتنا» وجعفر الراوى فى «قلب الليل» وغيرها كثير، وجميعها يؤكد المقدرة الكبيرة لهذا المبدع الفذ، الذى أطلق عليه محمود السعدنى بحق: عصير الشعب.

المذهل فى نتاج نجيب محفوظ، أن أعماله فى معظمها، وباستثناء رواياته التاريخية الأولى «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة»، جرت فى محيط لا يتجاوز كيلومترين أو ثلاثة، منطقة الجمالية وما حولها، لكنه اختار أن يغوص أعمق فى التاريخ وفى البشر، ومازلت أذكر ما قاله لى عالم الاجتماع الراحل سيد عويس فى حوار مطوّل، من أنه يطمئن إلى قراءة التاريخ فى روايات نجيب محفوظ، بأكثر مما يطمئن إليه فى كتابات المؤرخين.

فى مثل هذا اليوم من 9 سنوات تقريبا رحل عنا النجيب، الذى أحب الدنيا والناس فأحبته وأحبوه، رحل وكأنه يردد ما جاء على لسان الشيخ عبد ربه التائه فى «أصداء السيرة الذاتية»: إذا أحببت الدنيا بصدق، أحبتك الآخرة بجدارة.

عم نجيب.. أسعد الله صباحك.

 

عماد الغزالي كاتب صحفي
التعليقات