رغم تحسن العلاقات وزيادة الثقة بين العرابيين والخديوى توفيق، إلا أن الأخير وبإيعاز من قناصل إنجلترا وفرنسا كان يقلقه تزايد شعبية أحمد عرابى والحركة العرابية كلها يوما بعد يوم، حتى إن الخديوى بدأ يؤمن بأن عرابى ربما يخطط للإطاحة به وربما بحكم الأسرة العلوية كله!
أما عرابى، ورغم التزام الخديوى بإصدار قوانين مساواة الضباط المصريين بنظرائهم الأتراك والشركس إلا أنه كان يعتقد أن الخديوى لن يسكت على الحركة وأنه حتما سينقض عليها يوما ما، بل إن شائعة سرت بين العرابيين أن الخديوى توفيق أرسل إلى شيخ الإسلام العباسى وقد جمع بين شياخة الأزهر والإفتاء يطلب منح فتوى لقتل العرابيين، ورغم أن الإشاعة لم يثبت أبدا صحتها، لكن رأت الحركة العرابية أن هذا هو الوقت المناسب لاستغلال شعبيتها لتوطيد سيطرتها وتمصير الجيش المصرى بالكامل، فأرسل أحمد عرابى إلى الخديوى يطلب مقابلته فى ساحة قصر عابدين لعرض المطالب الجديدة للحركة، ورغم أن الخديوى قد تردد فى المقابلة إلا أنه قد انصاع لها فى النهاية وقد تمت المقابلة فى ساحة القصر وبحضور القنصل الإنجليزى كلفن وعرض عرابى خمسة مطالب معظمها تكرار لما سبق أن عرضه قبل شهور وحصل على وعود بتنفيذه، وقد تمثلت هذه المطالب فى:
(1) إسقاط الوزارة. (2) تشكيل مجلس النواب. (3) زيادة عدد الجيش. (4) التصديق على القوانين العسكرية الجديدة والتى قد تمت صياغتها بالفعل لكن لم يصدق عليها الخديوى بعد. (5) عزل شيخ الإسلام العباسى لانحيازه للخديوى على حساب الشعب.
اعترض الخديوى بشدة على هذه المطالب؛ لأنه رأى أنها تدخل من الجيش فى اختصاصات القصر وترك عرابى وعاد إلى داخل القصر، فتدخل القنصل الإنجليزى بالنيابة عن الخديوى وذكر عرابى مجددا بأن هذا تدخل فى اختصاصات الخديوى، لكنه وعد عرابى بإقناع الخديوى بأن يصدق على القوانين العسكرية الجديدة، لكن عرابى رفض اتهام التدخل وأكد للقنصل بأن الجيش يتحرك بالنيابة عن الأمة المصرية كلها، فعاد القنصل للمراوغة وتذكيره أن ذلك من شأنه جر البلاد للفوضى، فرد عرابى بأنه يملك القوة اللازمة للسيطرة، فطلب القنصل عدة ساعات للتواصل مع الخديوى!
بعد مباحثات مع الخديوى ومع قنصل فرنسا، رد القنصل الإنجليزى على عرابى بالموافقة على المطالب بشرط أن تطبق بشكل تدريجى كون أن بعضها يحتاج إلى موافقة الباب العالى، فوافق عرابى بشرط أن يتم حل النظارة فورا وقبل أن يغادر القصر، وبالفعل تم استدعاء شريف باشا إلى القصر وقام بتشكيل وزارة جديدة بعد أن حصل من عرابى على تطمينات بشأن تأييد الجيش للحكومة الجديدة وعدم الخروج عليها!
***
كان هذا الانتصار الثانى الذى حققه عرابى وحركته فى مواجهة الخديوى والإنجليز والفرنسيين والباب العالى بمثابة بداية مرحلة من عدم الاستقرار السياسى ذلك أن الإنجليز والفرنسيين لم يكونوا ليرضوا بتضخم نفوذ الجيش المصرى من ناحية، وكون أن الخديوى أصبح يدرك أن سلطته من الآن أصبحت مقيدة من كل الاتجاهات:
فهناك جيش يقوده البارودى وعرابى من بعده له الكلمة العليا فى الشارع ويستطيع أن يجبر القصر على تغيير سياسته!
ثم هناك الإنجليز والفرنسيون الذين زادوا من ضغوطهم على الخديوى وأصبحوا يتدخلون فى كل كبيرة وصغيرة فى قرارات القصر وذلك من خلال استغلال مسألة إدارة الدين!
وهناك من زاوية ثالثة الباب العالى حيث لم يشعر السلطان عبدالحميد الثانى أبدا بالراحة من قبل الخديوى توفيق وخصوصا أن مصر منذ عهد الخديوى إسماعيل أخذت تستقل تدريجيا عن سلطة الباب العالى حتى إن سلطة الأخير أصبحت فعليا سلطة اسمية لا تختلف كثيرا عن سلطة الباب العالى الاسمية على بلغاريا مثلا!
ومن زاوية رابعة فهناك مجلس النواب الذى أصبح تصديقه على قرارات الخديوى والنظارة ضروريا لإنفاذ المشاريع والقوانين فضلا عن سلطته فى وضع مشروع الموازنة العامة!
ثم هناك أخيرا النظارة والتى أصبحت هى الأخرى تتمتع بصلاحيات واسعة فى مواجهة الخديوى حيث إن رئيسها لم يعد فقط مواليا للقصر ولكنه أيضا يتحسب لسلطة مجلس النواب والجيش!
فإذا ما أضفنا إلى كل ذلك أن القصر نفسه كان منقسما وخصوصا أن أطماع البرنس حليم فى العرش (أحد أفراد الأسرة العلوية) لم تعد خافية على أحد ولا على الخديوى نفسه، حيث علم الأخير بمباحثات ومشاورات متوازية جرت بالفعل بين عرابى والإنجليز والباب العالى بخصوص احتمالية رجوع الباب العالى عن الفرمان السابق الذى صدر فى عهد الخديوى إسماعيل والذى اشترط أن يرث العرش أكبر أبناء الخديوى الحالى ــ يمكن فهم كيف كانت حقيقة قوة الخديوى توفيق وكيف بدا مترنحا بعد عامين فقط من عزل والده!
***
بدأ الخديوى ينفذ مطالب الثورة العرابية تباعا، فقام بعزل الشيخ العباسى من الأزهر وعين بدلا منه الشيخ الإمبابى والأخير هو اختيار أحمد عرابى نفسه! ثم صدرت اللائحة الأساسية لمجلس النواب (شورى النواب بحسب اسمه من أيام الخديوى إسماعيل) بحيث يتم انتخاب نائب أو اثنين من كل مديرية، وثلاثة من مصر (القاهرة) واثنين من الإسكندرية، وواحد من دمياط، وبالفعل تم تشكيل المجلس مؤلفا من 82 عضوا برئاسة سلطان باشا، ثم قام الخديوى أيضا بإصدار القوانين العسكرية الجديدة التى نظمت المعاشات والترقيات والامتيازات العسكرية، وهكذا تحقق لعرابى كل ما طالب به بالفعل!
كانت العلاقة بين الحركة العرابية والباب العالى علاقة شائكة أيضا، فمن ناحية كان أحمد عرابى من الذكاء بأنه قام بإطلاع السلطان عبدالحميد الثانى بكل تطورات الوضع الداخلى فى مصر وشكا له من التدخل الأجنبى، مما جعل عبدالحميد يشعر بالارتياح النسبى تجاه العرابيين لأنه وجد أنه قد يعيد نفوذه إلى مصر من خلالهم، ولكن من ناحية ثانية كانت أكبر عقبة تواجه عبدالحميد الثانى هى أن مطالب عرابى هى بالأساس مطالب دستورية ونيابية وعلينا أن نتذكر أن عبدالحميد نفسه كان قد أجهز على التجربة الدستورية والنيابية الوليدة فى الدولة العثمانية قبل ذلك بسنوات قليلة بعد أن خشى من تدخل وسلطة مجلس النواب العثمانى، فكيف له أن يؤيد حركة تطالب بالحد من سلطة الخديوى وتمثيل الشعب، ألا يعد ذلك خصما من سلطة عبدالحميد نفسه أيضا؟
لم يكن هذا فقط ما يؤرق السلطان عبدالحميد من الثورة العرابية، فهناك عامل آخر، وهى أن هذه الثورة هى بالأساس ثورة عسكرية أى أن من يقودها هو الجيش وكان ذلك فى وقت علم فيه عبدالحميد بأن هناك مطالب فى بعض الأقطار العربية بالتخلص من خلافة الأتراك وإعادة إحياء الخلافة العربية فى مصر وسوريا، ومن ثم فنجاح العرابيين قد يكون أول خطوات الإطاحة بالخلافة العثمانية ذاتها!
ومن هنا فقد قرر عبدالحميد فى البداية إرسال جيش عثمانى لمصر بحجة إخماد الثورة من ناحية، وكذلك عزل الخديوى توفيق وتعيين البرنس حليم بدلا منه من ناحية ثانية، وقد أرسل عبدالحميد إلى الإنجليز والفرنسيين للتباحث فى هذه القرارات، وافق الإنجليز على الفكرة الأولى بعد تعديلها ليكون من حق عبدالحميد إرسال مراقبين عثمانيين للوضع المصرى ولكنهم رفضوا تماما فكرة التدخل العسكرى، فيما رفضت فرنسا كلا الأمرين (التدخل العسكرى والمراقبين)، وانتهى الأمر بموافقة إنجلترا وفرنسا على إرسال مراقبين اثنين فقط (فؤاد بك وعلى نظامى باشا) بعد أن اشترطتا عليهما عدم تدخلهم فى الشأن السياسى المصرى والاكتفاء فقط بالمراقبة، وهو ما أزعج الخديوى بشدة حتى بعد أن حصل على تطمينات من القنصلين الإنجليزى والفرنسى، حيث أدرك أن الخناق أخذ يضيق على عنقه وأن احتمال الإطاحة به لصالح البرنس حليم والثورة العرابية يتزايد يوما بعد يوم!
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.