التجربة العربية فى مجالات البحث السياسى - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الأحد 13 يوليه 2025 12:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

التجربة العربية فى مجالات البحث السياسى

نشر فى : السبت 12 يوليه 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : السبت 12 يوليه 2025 - 7:50 م

 

الموضوع ليس جديدًا تمامًا، فقد طرحه من قبلى العشرات من المفكرين والباحثين سواء التساؤل عن ماهية باحث العلوم السياسية خصوصًا أو باحث العلوم الاجتماعية عمومًا، أو حول مدى جودة هذا البحث. كما أن هذا التساؤل مطروح فى التجربة الغربية كما هو الحال فى التجربة العربية، والإجابة هنا أو هناك ليست سهلة ولا بسيطة، نظرًا لأن العلوم الإنسانية بشكل عام، وعلم السياسة - بشكل خاص - يتعامل مع ظواهر اجتماعية ليس من السهل قياسها أو إخضاعها للتحليل مثل ظواهر القوة، السلطة، السيادة، كما أن كون الإنسان (باحثًا أو مبحوثًا) جزءًا لا يتجزأ من هذه الظواهر يضيف على الأمر المزيد من التعقيد!
فى هذا المقال أحاول المشاركة فى إجابة هذا التساؤل خصوصًا فى التجربة العربية، نظرًا لأن البحث المنظم الحديث المرتبط بالسياسة فى هذه التجربة كعلم لا يتمتع بنفس الأصالة التى يتمتع بها نظيره فى التجربة الغربية، نظرا لأن علم السياسة خصوصًا فى فرعيه الشهيرين (العلاقات الدولية والنظم المقارنة) هو بالأساس ابن التجربة الغربية. قطعا هذا لا يعنى أنه لا توجد أبحاث فى المكتبة العربية تتمتع بالأصالة، لكن يعنى هذا فقط أن معظم المفاهيم والاقترابات والنظريات وطرق البحث المستخدمة فى علم السياسة هى بالأساس بنت التجربة الغربية الأوروبية/الأمريكية وهذا لا يعيبنا بالضرورة، لكنه إقرار بواقع التجربة الحضارية والسياسية!
• • •
لقد جرت محاولات لإعادة الأصالة للبحث السياسى وأدواته فى التجربة العربية، خصوصًا بواسطة تلك المدرسة التى ادعت أنها ستقوم «بأسلمة العلوم الاجتماعية»، وفى تقديرى أن هذه التجربة (على الأقل فى حدود محاولة أسلمة العلوم السياسية) لم تنجح لسببين: الأول أن هذه التجربة كانت مؤدلجة، بمعنى أنها مدفوعة بأهداف سياسية وفكرية أكثر من كونها مدفوعة بأهداف علمية، والسبب الثانى أنها كانت تجربة رد فعل، لا فعل، بمعنى أنها كانت تبحث عن تحدى التجربة العلمية الغربية لا البناء عليها، ومن ثم فقد شهدنا ما يمكن أن نطلق عليه محاولات "تلفيقية"، غير علمية لمجرد تحدى التجربة الغربية وهو ما أثر على منهجية هذا الاتجاه.
لكن وباعتبار أن التجربة البحثية فى النهاية هى ابنة مخلصة للبيئة التى تنشأ فيها، فقد حدث تطور هام بخصوص علم السياسة فى العالم العربى بعد الثورات العربية فى ٢٠١١ وذلك من ثلاثة أوجه، الوجه الأول هو الانفتاح السياسى الكبير الذى شهده العالم العربى فى تلك الفترة مما أذاب جبال الجليد بين الباحثين العرب، وبين الظواهر التى كان من المفترض أن يدرسوها وكانوا يدرسون بدلا منها ظواهر غربية كون أن البيئة السياسية من قبل لم تكن تسمح بدراسة الظواهر السياسية العربية إلا بالطريقة التى تريدها السلطة. أما الوجه الثانى للتطور، فهو أنه ولأول مرة أصبح هناك طلب أكبر على باحثين علم السياسة العرب فى الإعلام والصحف والأحزاب السياسية، كما أن بعضهم وصل إلى السلطة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر كالحصول على عضوية البرلمان، أو عضوية الأحزاب، أو العمل فى الاستشارات السياسية، أما وجه التطور الثالث والأخير كان أنه ولأول مرة أصبحت الظاهرة السياسية العربية هى محور دراسات ومناقشات المجتمع الأكاديمى الغربى بعد أن كانت على الهامش دائمًا قبل ذلك!
• • •
كما كانت لهذه التطورات مزايا، فقد طرحت بدورها تحديات على الباحثين العرب ووضعتهم أمام خيارات كثيرة صعبة اختلط فيها الشخصى بالعام، وتصارعت فيها الرغبة فى التميز الأكاديمى مع الطموحات السياسية والرغبة فى الترقى الاجتماعى مما أثر على جودة واستقلالية البحث السياسى فى العالم العربى، كما أن الأمر تفاقم بعد فشل الثورات العربية فأصبح هؤلاء الباحثون أمام تحديات أكبر سواء فيما يتعلق بأمانهم الشخصى أو حرياتهم الأكاديمية والبحثية أو حياتهم الأسرية، فمنهم من اختار البقاء فى الوطن والانعزال والاكتفاء بالعمل البحثى النظرى، ومنهم من فضل البقاء مع محاولة الاشتباك مع الشأن العام بأكبر قدر ممكن أو متاح من الاستقلالية، ومنهم من فضل اختيار الانضمام إلى السلطة الجديدة، ومنهم من فضل الرحيل سواء لبيئة أكاديمية عربية لها أجندات سياسية مناوئة للأجندة السياسية للسلطات الجديدة الحاكمة فى الوطن، أو الهجرة إلى بيئات أكاديمية أبعد (غالبًا ما كانت غربية) مع قبولهم بثمن البداية من نقطة الصفر، وبين هذه الاختيارات تأرجح عدد آخر من باحثى العلوم السياسية فى العالم العربى!
بغض النظر عن من فعل ماذا وبأى ثمن، ولأن الباحثين فى النهاية بشر لهم حساباتهم الخاصة وتختلف قدرات كل منهم بخصوص الثمن الذى قد يستطيع أو تستطيع تحمله أو عدم تحمله، فإن المحصلة النهائية فى تقديرى لم تكن فى خدمة الجودة الأكاديمية والبحثية، فقد عاد البحث السياسى فى التجربة العربية سنوات إلى الوراء، حيث إنه وباستثناءات محدودة للغاية فقد أصبح دور بعض الباحثين أقرب إلى دور المهرج فى السيرك حيث أصبحت وظيفتهم الأساسية إسعاد الجماهير بحركات بهلوانية تلفت النظر وتجلب السعادة والانبهار، أما البعض الآخر فقد تحول إلى وظيفة العراف الذى يوشوش الودع ويقرأ الكف ويفك طلاسم بقايا فناجين القهوة، فأصبح يضع التوقعات السياسية بالتمنى حاصدًا آهات وإعجاب الجماهير دون مصدر ولا توضيح لكيفية التوصل إلى هذه التوقعات، التى فى النهاية عادة ما تخيب، لكن هذا لا يمنعه من المواصلة، فصناعة الأمل حتى لو كانت وهمية أفضل للجماهير من الاعتراف بالأمر الواقع!
بينما تحول قسم ثالث من الباحثين إلى وظيفة الترزى الذى يقوم بتفصيل التحليل السياسى على مقاس الزبون، والزبائن هنا خليط من نخب سياسية وأمنية ومالية، تبحث عن تخريجات لقراراتها أو آرائها أو مواقفها وتستعين فى ذلك بترزية التحليل السياسى الذين لا يختلفون كثيرًا عن ترزية القوانين الذين كنا نعرفهم قبل وبعد الثورات العربية! كما أن هناك أخيرًا من يقوم بوظيفة التحليل السياسى على غرار المبشرين وأهل الدعوة، فيخلط التحليل السياسى بالمواقف الأخلاقية ويربط هذا وذاك بالعقيدة أو الدين، فيتحول لديه التحليل السياسى إلى عمل دعوى يبشر الناس بالآخرة دون أن يقول لهم ماذا يحدث فى الدنيا!
• • •
للأسف وفى رأيى فقد تأخر البحث العلمى العربى، خصوصًا ذلك المرتبط بالظواهر السياسية حتى عما كان عليه الوضع قبل ٢٠١١، ذلك أنه قبل هذا التاريخ ورغم التسلط السياسى، فقد كان هناك قدر من الاستقرار السياسى والاقتصادى، وفر بيئة تتمتع بقدر من الأمان وهامش من الحرية ساهم فى جودة البحوث السياسية، خصوصًا فى مجالات التنمية بشقيها السياسى والاقتصادى، وكذلك فى مجالات البيئة ودراسات النوع (الجندر)، وهو أمر نحتاج إلى العودة إليه كأضعف الإيمان من أجل أن نعيد بعض الهيبة المفقودة للبحث السياسى العربى.
أن تكون باحثًا جيدًا فى العلوم السياسية بشكل خاص أو العلوم الاجتماعية بشكل عام، يعنى فى رأيى المتواضع خمسة أمور: الأول أن تتمتع بقدر من الاستقلال المادى فلا تكون أبحاثك لخدمة أجندة سياسية بعينها، والثانى أن تكون أبحاثك خالية من التحيز الفكرى والأيديولوجى وهو أمر بطبيعته صعب وقد يكون فى رأى البعض مستحيلا، لكن هناك درجات ممكنة من تحقيقه حتى ولو بشكل غير تام، فالباحث مهمته تحليل الواقع كما هو لا كما يتمناه، وثالثًا أن تكون مطلعًا أصيلًا على الظاهرة السياسية/الاجتماعية التى تقوم بتحليلها لا أن تكتفى بمجرد النقل أو الترجمة، ورابعًا أن يكون لديك قدر من الاستقرار الأسرى والوظيفى حتى تتوافر لديك القدرة على الإنتاج العلمى الذى فى حاجة لصفاء الذهن وليس اللهث وراء متطلبات ومسئوليات الحياة، وأخيرًا أن يتوفر لك قدرًا من الأمان السياسى، فبلا بيئة آمنة سياسيًا لا يمكن أن يكون هناك بحث سياسى مكتمل ولا باحث سياسى متمكن!

أستاذ مشارك العلاقات الدولية والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر

 

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر