على مواقع التواصل الاجتماعى، انتشر مؤخرًا سؤال وقعت عينى عليه بالصدفة، ووجد تفاعلاً كبيرًا من رواد هذه المواقع فى الإجابة عنه. كان سؤالاً سهلاً وبسيطًا يقول: «ما الذى يُخيفك فى هذه الحياة؟» وبقدر بساطته بقدر عمقه أيضًا، لأن الخوف هو واحد من أهم المشاعر الإنسانية التى تتخطى الثقافات والأجيال، فما دمتَ إنسانًا، بل وبمجرد كونك كائنًا حيًّا، حتى لو غير عاقل، فإن شعور الخوف سيكون دومًا واحدًا من أهم المشاعر التى قد تقود سلوكك فى الحياة وتدفعك لاتخاذ قرارات بعينها – أو عدم اتخاذها – قد تفتخر أو تندم عليها فى النهاية!
فى الدراسات العلمية لسيكولوجية الجماهير، هناك تركيز كبير على شعور «الخوف» باعتباره واحدًا من أهم المشاعر البشرية التى تستغلها السلطة السياسية لصالحها من أجل دفع هؤلاء الجماهير باتجاه سلوك سياسى بعينه يكون لصالح هذه السلطة ومن أجل مصالحها. كذلك، فعبر التاريخ، كانت ولا تزال الحرفة الرئيسية لمعظم رجال الدين من مختلف الأديان والمعتقدات هى صناعة وزراعة الخوف والفزع فى نفوس الأتباع حتى يتحكموا فى البشر وفى مصائرهم كما أرادوا! فالإنسان الذى يتملكه الخوف من حياته لا إرادة له!
تفاعل مع السؤال المذكور عشرات الناس من أعمار وثقافات مختلفة، لكن الملفت للنظر كان وجود مشتركات كثيرة فيما يُخيف هؤلاء جميعًا، ولعل واحدًا من أهم هذه المشتركات كان الخوف من الموت! والملفت أكثر، أن المشاركين فى الرد على هذا السؤال، تقريبًا قالوا نفس الشىء، وهو أن ما يخشونه ليس الموت نفسه، ولكن ما بعد الموت، هذا المجهول الذى لا نعرفه حتى لو كنا متدينين ولدينا قصص متوارثة عما يحدث أو لا يحدث بعد مفارقة الحياة!
• • •
فكرتُ فى السؤال، وحددتُ أكثر ما يُخيفنى فى هذه الحياة، ولأنه أحيانًا قد يكون مقبولًا أن يُشارك الكاتب بعضًا من حياته الشخصية مع القراء، فسمحتُ لنفسى أن أشارك بعض مشاعرى الشخصية فى هذه المساحة مع القارئ والقارئة الأعزاء والعزيزات!
أخاف الوحدة! أضبط نفسى متلبسًا أحيانًا باستجداء من حولى للسؤال عنى! عشتُ معظم سنوات حياتى أسعى لتكوين أسرة، فبحكم نشأتى المحافظة شبه الاشتراكية، فقد كانت – وما زالت – قيمة الأسرة كبيرة لدى للغاية! عشتُ حياتى قبل قرار الهجرة معتقدًا أن حياتى ستكون بسيطة كما هى حياة أبى وأمى، وكما كانت حياة أجدادى، أحصل على شهادة جامعية، أحصل على وظيفة، أحب، أتزوج، أنجب، ثم أمضى ما تبقى من حياتى فى رعاية أسرتى، أتقدم فى العمر بصحبة شريكة حياتى وأولادى وأحفادى، ثم أموت على سريرى وسط دفء منزلى وأسرتى، ثم ألقى ربى وهو راضٍ عنى، فأتمتع بنعيم الجنة!
قصة بسيطة وأحلام مقبولة وطبيعية، فيها من اليقين والاستقرار ما يجلب الدفء والحنان، وما يدفع الإنسان للاستيقاظ كل يوم من حياته بطاقة إيجابية تساعده على العمل والاجتهاد والتغلب على الصعاب! لكن لم تَسِر حياتى أبدًا هكذا، فرغمًا عن إرادتى لم يكبر أولادى أمام عينى، تركونى أطفالًا، ثم أصبحوا مراهقين، لم يكن هذا قرارى ولا اختيارى، ولكنها تدابير القدر! منعتنى الظروف المادية ممن أحببتُ تارة، ثم عندما تحسنت هذه الظروف المادية، فقد منعنى اختلاف الأديان حينما أحببتُ ثانية! ما يُخيفنى الآن هو أن أبلغ أرذل العمر مستجديًا السؤال، وأن أموت وحيدًا بلا أحباء من حولى!
• • •
أخاف الخذلان، أن أتعشم، أن أُخلِص، ثم لا أجد التقدير لما أفعل، حتى لو كان ما أفعله قليلًا أو بسيطًا، ولكن طالما هو أقصى ما أستطيع تقديمه! رغم أنى بلغت منتصف الأربعينيات، وهى سن كنت أعتقد أنى حينما أبلغها سيكون لدىَّ إجابات عن تساؤلات كثيرة لطالما شغلتنى منذ مرحلة المراهقة، لكنى حتى الآن لا أعرف الإجابة على سؤال بسيط، أو هكذا يبدو: هل من يقوم بالخذلان يعرف؟ هل يقصد؟ هل تتبلد مشاعره لدرجة أنه لا يكون مدركًا لما يقوم به؟ ولكن خوفى من الخذلان له وجه آخر، وهو أن أكون أنا السبب فى خذلان آخرين! وخصوصًا هؤلاء الذين أحمل مسئوليات تجاههم! هل قمتُ أنا بخذلان أحد من قبل؟ وإذا حدث، هل كنتُ مدركًا لذلك؟ هل كنتُ أعنى ذلك؟ هل كان فى استطاعتى فعل غير ذلك؟
أخاف الفشل، أخاف غدر البشر قبل غدر الحياة. الفشل ربما يكون مفهومًا نسبيًا، لكنه عندى متعلق بعدم القدرة على القيام بمسئولياتى، أو عدم القدرة على تحقيق أهدافى، طالما كانت الأخيرة مشروعة ومعقولة! ربما لا نحقق أحلامنا فى الحياة قبل أن نغادرها، لكنى لا أعتبر ذلك فشلًا، قد يكون سوء حظ أو قدرًا، أو قد تكون حتى بعض هذه الأحلام شديدة الشطط أو اللا معقولية، لكن حينما لا يتمكن الإنسان من تحقيق أهدافه المباشرة، وما يعتقد أنه متاح بحكم مهاراته أو ما يعتقد أنها مهاراته، فإن الشعور قد يكون مرًّا! صحيح، بعض الفشل قد يكون خارجًا عن إرادتنا، لكن الحياة ومسئولياتها لا ترحم، ولا الناس أيضًا! بغض النظر إن كان تم الغدر بنا أم لا، كانت الأمور فى استطاعتنا أم لا، لا يعترف عموم الناس بكل هذا، ولن يرحمك أحد! إما أن تكون ناجحًا، وإما أن يدهسك قطار الحياة، ووقتها لن يتذكرك أحد! يا للأسف، لا مساحة للفاشلين فى هذه الحياة! لن يهتم أحد مهما كان قريبًا بقصة كفاحك، ولا بعدد تضحياتك، فقط سيهتمون بالنتيجة النهائية!
• • •
وأخيرًا وليس آخرًا، أخاف الموت، كعدد كبير آخر من بنى الإنسان! الحقيقة، وحتى أكون أكثر دقة، ليس المجهول هو فقط ما يُرهبنى من الموت، ولكن خوفى أن أموت دون أن أعرف أننى مت! قد يبدو الأمر ساذجًا أو مضحكًا، لكن الحقيقة أن هذا يُسبب أرقًا كبيرًا بالنسبة لى!
منذ عام، كنتُ أُجرى عملية جراحية، فور دخولى غرفة الجراحة مستلقيًا على سرير المرضى، ولأنها كانت المرة الأولى التى يتم فيها تخديرى بشكل كامل منذ أن أجريتُ عملية استئصال اللوزتين فى طفولتى، ففور دخولى الغرفة، وبشكل لم أُخطط له، ولكنه كان وليد اللحظة، طلبتُ ممن حولى أن يُعرّف طبيب التخدير نفسه لى! يبدو أنى فهمتُ بشكل خاطئ، فقد رد علىَّ الجراح بأنه هو من سيقوم بالجراحة، وقطعًا كنتُ أعرفه، فهو طبيبى المعالج، لكنى كررتُ الأمر ببعض العصبية: أريد أن أعرف طبيب التخدير! فتقدمت لى طبيبة عرفت نفسها، وأخذت تطمئننى بأن الإجراء بسيط، لم يكن هذا فى الواقع ما يُقلقنى! فقط قلت لها: لى طلب محدد، قبل أن تقومى بحقن المخدر فى وريدى، دعينى أعرف ذلك! لا أريد أن أفقد الوعى فى غفلة منى، أريد أن أكون منتبهًا لأن إرادتى مهمة! تفهمت الطبيبة فورًا كلامى، وقالت لى إننى لستُ أول من يطلب منها ذلك، فهناك كثير من المرضى يكرهون أن يناموا مخدرين دون إرادتهم!
ورغم أنه، ومن الناحية القانونية البحتة، فإن دخول غرفة الجراحة وترديد اسمى وتاريخ ميلادى واسم الإجراء الطبى الذى سأكون بصدده، مع قيامى بالتوقيع على أوراق المستشفى القانونية التى تُحدد نسبًا إحصائية لإمكانية مفارقة الحياة أو التعرض لمخاطر أخرى بسبب الجراحة، هو فى حد ذاته دليل قانونى على إرادتى الحرة، لكن ما قصدته كان إرادتى فى الوعى! معرفتى باللحظة المحددة لفقدانى الوعى! استجابت الطبيبة لطلبى، فقامت بالعد حتى ثلاثة، ثم نبهتنى أن المخدر سيتم ضخه الآن فى وريدى، طالبة منى أن أُشير لها بالإبهام كى تقوم بضخه، فعلتُ ما طلبت، ثم كانت ثوانٍ وغبتُ عن الوعى!
• • •
هذا ما يُخيفنى تحديدًا فى الموت! لا أخاف موت الغفلة بسبب عدم استعدادى للحساب فى الآخرة أو غيرها من الأمور التى يستخدمها رجال الدين محدودو الأفق بالسليقة لحث الناس على إقامة الشعائر الدينية، لكن ما يُخيفنى فى موت الغفلة، هو أننى سأكون غافلًا! سأموت دون ربما أن أعرف أنى مت! هل كثيرٌ على الإنسان، بعد أن عاش حياة طويلة أو قصيرة، أن يعرف أنه مات؟! هذا يختلف كثيرًا مثلًا عن شخص يكون فى شبابه أو فى أرذل العمر، لكنه مريض بمرض عضال، فيستلقى على سرير الموت استعدادًا له، ربما يشعر هؤلاء بالألم الجسدى، ورغم أنى أخاف الأخير أيضًا، لكنى أُفضل هذا السيناريو لأننى فيه سأكون على الأقل على علم بالموت ومغادرة الحياة!
أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر