ترددتُ طويلًا فى الكتابة عن محنة المرض لأنى أحببتُ دائمًا أن يكون هذا العامود نافذةً على البهجة، ثم غيّرتُ رأيى لأقول للذين يمرون بنفس المحنة إنكم لستم وحدكم، والألم حين يُقسّم يخّف، ولأننى كنت بين خيارين إما أن أكتب عما أشعر به فأصدُق أو أكتب عما لا يشغلنى فأفتعل، وكان أن ذهبت إلى الخيار الأول. عمومًا فإن محنة المرض هذه تضع الواحد أمام خيارات كثيرة وصعبة أيضًا، فمثلًا كان أول خيار واجهته هو هل أطارد طبيبى الجرّاح الرائع بأسئلتى التفصيلية التى قد تقلقنى إجاباتها، أم أكتفى بما يقدمه لى من معلومات ولا أسأل عن أشياء إن أبديت لى قد تسؤني، اخترت التفاصيل وعشتُ القلق من تفاصيل هذا المرض الوَحش بفتح الواو. فمثلى مثل كل الناس كنت أشير للمرض إياه بالمرض الوِحش بكسر الواو وإن كنت أتعجّب قليلًا من احتكاره هو وحده صفة "الوحاشة"، لكنى جاريت السائد. لكن بعد أن غافلنى هذا المرض وخبرته جيدًا اكتشفتُ أن له كل صفات الوَحش لأنه لا يفترس الجسد فقط لكنه مع الوقت يفترس الروح، وهذا هو الجانب الأكثر إيلامًا فى الموضوع كله. بالتأكيد لم أعد أنا هى أنا، الكل حولى يطالبنى بأن أكون هذه الروح الفرفوشة التى كنتها دائمًا ومعنى هذا أنهم يلمسون التغيير. أنا نفسى اكتشفتُ أننى طوال السنين الماضية كنت أختزنُ كميات هائلة من الدموع لأستدرّها عند الحاجة كما يختزن الجمل الماء ليرويه عند الحاجة. نظرتى للأشياء والحياة والقُرب والبُعد تغيّرت. قال لى أحدهم بجدية فائقة "إنى أخذت عينًا لأننى شاركتُ فى الحوار الوطني!!" لا يعلم القائل أن أقصى طموحاتى فى هذه اللحظة كان ينحصر فى أن أقلب جنبى من اليمين إلى اليسار. أشيائى التى أحبها بدّلت ترتيبها بدون أى تدخّل مني، لم أعد أطيق مذاق الشاى وكان فنجان الشاى باللبن مع قطعة من بسكويت النشادر فى الصباح أحتسيه مع زوجى وابنى متعة ما بعدها متعة. الرغى الذى كاد يطردنى من سنة أولى فى مدرسة الراهبات غاب عنّى وصرتُ أتعامل مع كل مَن حولى بأسلوب المختصر المفيد، وبعض الأمور التى تتعلّق بالمشاعر والأحاسيس لا ينفع معها أبدًا المختصر المفيد. صرتّ "شَبَه السرير" لفرط جلوسى عليه كما يستفزّنى ابنى لأخرج معه إلى ريستوران Paul فى الكوربة، أو الذهاب للسينما لأن فيها فيلم بيضحّك. لم أستنكر نزول ابنتى لثانى مرة من آخر الدنيا لتكون معى تاركةً من ورائها طفلتها الوحيدة وننّ عينها مع أننى استنكرتُ نزولها الأول لنفس السبب وكأننى وضَعتُ نفسى فوق ابنتها، ويا روح ما بعدك روح. هل سيتغيّر هذا التغيير؟ هل سأسترّد نفسى من هذا الوَحش بعد نهاية رحلة العلاج فى غضون أسابيع بإذن الله؟ جائز نعم وجائز لا.
• • •
خيار آخر كان عليّ أن أتخذ فيه قرارًا، أصارح الجميع بمحنتى أم أضيّق من دائرة العارفين بما أعانيه؟ وفى البداية ذهبتُ للخيار الأول، فالحياة صعبة على الجميع، ثم آتى أنا لأزعجهم بتطورات الأشعّات والجراحات والجلسات.. لا لا هذا لا يجوز. ولأن كل سرّ بين اثنين لا يظّل سرّا لفترة طويلة، أخذَت دائرة العارفين تتسّع شيئًا فشيئا، وكان هذا مفيدًا من جانب ومضّرًا من جانب آخر. مفيد لأننى اكتشفتُ قُرب ناس كنتُ أظن أنهم بعيدون عنى فإذا بهم يهتمون ويسألون ويتابعون. ومضّر لأننى اضطررتُ لتكرار نفس القصة التى يؤلمنى كل سطر بل كل حرف فيها ويسحب بعضًا من مخزون الدموع فى أعماقي. هكذا طوال الوقت خيارات خيارات خيارات.
• • •
فى هذه المحنة أيضًا بعض المشاهد التى لا يمكن أن تبارح خيالى أبدًا. مشهدى وأنا أتناول برتقالة بصرّة بمزاجٍ عالٍ بعد قيلولة الظهيرة اللذيذة، وكان زوجى وابنى قد علما بثبوت إصابتى بالمرض الوَحش واحتارا فى كيفية إعلامى بالخبر، كلاهما ينظر للآخر وأنا ماضية فى التهام فصوص البرتقالة فصّا فصّا حتى إذا أنهى لى زوجى الخبر امتلأ فمى بعصير الفصّ الأخير وأغلق حلقى عليه بوابة الدخول. مشهدى وأنا أفرّ من طاولة المسح الذرّى لا أصدّق أنى انتهيتُ منه وفى يدى الكانيولا اللعينة لا أنتبه إلى أننى لم أطلب من الطبيب نزعها من وريدي. مشهدى وأنا أرى زوجى يتعلّم مبادئ الطب لا بل ويتجاسر على تغيير الجرح مرتديًا القفّاز المعقّم ويطمئننى إلى أن جرحى أفضل من امبارح الحمد لله، ولهذا الرجل فى عنقى دَين أدعو الله أن يعيننى على الوفاء به لأنه دَين كبير وثقيل، فهو المايسترو الذى يتواصل مع الأطباء ويجهّز كميات الدواء المطلوبة ويصمّم جدولًا بمواعيد الجلسات ومؤخَرّا صار يُغيّر على الجرح، وبينما عيونى متوّرمة وشَعرى مهمل وذراعّى مشوّهان من تأثير الكانيولا اللعينة لا يتوّقف عن السؤال عليّ بصيغة: هيه أخبارك إيه دلوقتى يا جميل؟ والفارق الزمنى بين دلوقتى ودلوقتى لا يتجاوز نصف الساعة وربما أقل.
• • •
وكما حاول كل حريص علّى أن يطالبنى باسترداد روحى القديمة الفرفوشة، فإنه حاول أيضًا أن يذكّرنى بأنى امرأة قوية، وأن محنتى مع المرض الوَحش ليست محنتى الأولى فقد مررتُ بمحنة أخرى شديدة وأكرمنى الله فيها كرمًا ليس له آخر. وفى مسألة الفرفشة والقوة هذه أحاول أن أكون عند حسن الظن بى فأنجح مرة وأفشل مرات، أنجح فأتذكّر كيف سخَرتُ من قول طبيب الأشعة "يا مدام فَتح البطن مش بالساهل" واستحضرتُ مشهد نجمة إبراهيم فى فيلم "ريّا وسكينة" وهى تُجهز على إحدى ضحاياها قائلة "قطيعة ما حدّش بياكلها بالساهل". وأفشل مرّات فأتذكّر الصديقة العزيزة أنيسة حسّونة التى كانت فى منتهى القوة ومع ذلك غلبَها الوَحش. ومع ذلك سأحاول قدر استطاعتى أن أكون أقرب لطريقة تعاملى مع طبيب الأشّعة إياه، وأحاول افتكاك بعض روحى المرحة من هذا الوَحش ربما فى مقالٍ لاحق.