بينما كنتُ أعكف على دراسة الوثيقة الإسرائيلية الرسمية المعروفة باسم وثيقة يعقوب ناجل، والتى حددت خططًا ومبادئ للجيش الإسرائيلى لكى يسير عليها خلال الأعوام العشرة المقبلة، والتى تضمنت جزءًا كبيرًا عن أهمية السيادة التكنولوجية واستخداماتها العسكرية، لفت نظرى تصريح رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطرى «بأن العدو الإسرائيلى استخدم أسلحة لم تكتشفها الرادارات»، وذلك أثناء الهجوم الذى تم ضد قطر فى 9 سبتمبر 2025. وقبل هذا الهجوم بأيام، وتحديدًا فى الثانى من سبتمبر 2025، تابع العالم إطلاق إسرائيل للقمر الصناعى (أوفيق 14)، والذى تم تصنيعه وإطلاقه محليًا بشكل كامل، وهو ليس قمرًا بهدف نقل القنوات الفضائية وبرامج الترفيه بل بغرض التجسس، كما أن الصاروخ الذى حمل هذا القمر الصناعى هو كذلك صناعة محلية كاملة بين شركة (Tomer LTD) الإسرائيلية ونظم الدفاع Rafael، فى إطار برنامج قديم للتعاون بين إدارة الأبحاث والتطوير بوزارة الدفاع الإسرائيلية ووحدة الاستخبارات (9900) والقوات الجوية. كما أنه أُطلق من إحدى القواعد الجوية داخل إسرائيل، وليس من دولة أخرى. وحسب تصريحات المسئولين الإسرائيليين يمكنه تصوير أجزاء أقل من 50 سم ليلًا ونهارًا. وذكر وزير الدفاع الإسرائيلى «أن هذا القمر رسالة لكل أعداء إسرائيل أينما كانوا، بأننا نراقبهم فى كل الأوقات وفى كل الظروف».
وجدير بالذكر أن هذا القمر الإسرائيلى للتجسس ليس الأول من نوعه، فقد سبق أن أطلقت إسرائيل قمرًا آخر فى مارس 2023 هو «أوفيق 13»، ويعكس ذلك بشكل واضح مدى التقدم العلمى الذى وصلت إليه إسرائيل فى هذا المجال، والذى تعتبره - كما ذكرنا نقلًا عن وثيقة يعقوب ناجل- جزءًا من تصورها عن السيادة التكنولوجية واستخداماتها العسكرية، وأهمية الحفاظ على هذه الفجوة التكنولوجية الهائلة بينها وبين دول المنطقة سواء على مستوى الدول أو التنظيمات. ويأتى ذلك فى إطار نظرة إسرائيل للمبادئ الستة لأمنها العسكرى التى حددتها هذه الوثيقة التى استعرضناها فى ثلاث مقالات سابقة، أحدثها نُشر بتاريخ 16 سبتمبر 2025.
ونشير هنا كذلك إلى تصريح نتنياهو مؤخرًا بأن كل هاتف محمول (ذكى) يحتوى على قطعة واحدة على الأقل مصنوعة فى إسرائيل، ويتردد بين المتخصصين أن هذه الهواتف المحمولة يسهل تحويلها إلى أداة للتجسس، كما يمكن استخدامها عن بُعد لتحديد موقع الشخص الذى يحملها بكل دقة، وبالتالى توجيه ضربات صاروخية دقيقة للمكان الذى يتواجد فيه. وهذه التكنولوجيا هى ما تستخدمه إسرائيل فى استهداف الأفراد والقيادات العسكرية والسياسية والعلمية.
• • •
السؤال المهم هنا: كيف تمكنت إسرائيل من الوصول إلى هذا التطور التكنولوجى الهائل وتطبيقاته العسكرية والاستخباراتية بالغة الخطورة؟
تشير وثيقة يعقوب ناجل إلى النقاط المهمة التالية:
أولًا: لقد استثمر الجيش بشكل ضخم فى هذا المجال البحثى العلمى منذ تسعينيات القرن الماضى، وبلغ عدد المراكز العلمية داخل الجيش (195) مركزًا متخصصًا فى مجالات مختلفة. ومن أهم هذه المراكز العلمية معهد وايزمان، ومعهد تكنيون الذى يرأسه العقيد يعقوب ناجل نفسه. وتوصى الوثيقة بزيادة عدد هذه المراكز إلى (300) مركز.
ثانيًا: دعم التعاون بين المؤسسات الأمنية والعسكرية مع مراكز البحث العلمى الجامعية فى القطاع المدنى، وتم التركيز على مجالات الذكاء الاصطناعى، والعلوم السيبرانية، والنانوتكنولوجى، والفيزياء النووية، وعلوم الفضاء، وصناعة الصواريخ، والمحركات ذات السرعات الأسرع من الصوت (Hypersonic)، وموضوعات الطاقة الموجهة.
ثالثًا: التركيز على تكنولوجيا الحروب السيبرانية، التى أصبحت مركزية فى الحروب الحديثة دفاعًا وهجومًا. وقد أنشأت إسرائيل منذ أكثر من عشر سنوات (الإدارة الوطنية للعلوم السيبرانية)، كما أنشأت وزارة الدفاع «قسم الدفاع السيبرانى». ومن خلال هذه العلوم فائقة التطور تستطيع الدولة التى تملك ناصيتها توجيه إشارات إلكترونية عن بُعد (أو فيروسات) تدمر من خلالها أيًّا من نظم الحاسبات سواء فى المجال العسكرى مثل أنظمة الرادارات والاتصالات والقيادة والسيطرة ونظم الدفاع الجوى بل والطائرات العسكرية، أو فى المجال المدنى مثل أنظمة توجيه وإرشاد الطائرات، والبنوك، والاتصالات الهاتفية، والمواصلات كالقطارات والطائرات المدنية بل وحتى أجهزة عمل المستشفيات. وكان ذلك واضحًا أثناء الهجمات التى شنتها إسرائيل على المنشآت الإيرانية النووية.
رابعًا: الاهتمام بعلوم الطاقة الموجهة مع التركيز على ما يسمى بموجات الميكروويف الكهرومغناطيسية عالية الطاقة HPEM High-Power Electro Magnetic Microwave.
وهذه التكنولوجيا يتم توظيفها فى المجالات العسكرية، ومنها:
• تحييد التهديدات غير المتماثلة، وهى التكنولوجيا الرئيسية وربما الوحيدة القادرة على القضاء على أسراب الطائرات المسيّرة والطائرات دون طيار أو الصواريخ المتطورة، وذلك من دون استخدام قوات متحركة ضخمة.
• تدمير نظم العدو فى مجال الاتصالات ونظم القيادة والسيطرة.
• حماية البنية الأساسية ضد الهجمات السيبرانية التى يمكن أن تعطل نظم الكهرباء والمياه، وبرامج أجهزة ونظم الكمبيوتر، وهو ما يشكل تهديدًا للبنية الأساسية.
وقد أوصت الوثيقة بأهمية الاستمرار فى هذا البرنامج وزيادة ميزانيته واستمرار الشراكة القائمة بين مؤسسات التصنيع الأمنية والعسكرية والجامعات المدنية ذات الصلة.
خامسًا: تشجيع كبريات الشركات العالمية ومراكز البحوث المرموقة العاملة فى نفس المجال على أن يكون لها فروع فى إسرائيل والتعاون معها، وإزالة أى عقبات بيروقراطية أمام استثماراتها.
سادسًا: أسفر الاستثمار فى هذه المجالات التكنولوجية عن تقديم حلول كثيرة فى المجالات العسكرية، وتحقيق التفوق وعلو الشأن فى عمليات الدفاع والهجوم، ومن ذلك السيطرة الجوية نتيجة للتفوق فى مجال التجسس الفضائى وجمع المعلومات بدقة، وبالتالى قدرة أجهزة الأمن والمخابرات على القيام بالعديد من العمليات بدقة.
سابعًا: أدى كذلك التوسع فى هذا الاستثمار إلى إنتاج أسلحة ونظم أمن متطورة، وتمكين إسرائيل من تحقيق فائض تكنولوجى كبير ساهم فى زيادة الصادرات الإسرائيلية من هذه التكنولوجيا، وأصبحت الدولة العبرية من أهم مراكز إنتاجها عالميًا، بالإضافة بالطبع إلى المكاسب السياسية والدبلوماسية المحققة نتيجة زيادة الطلب من جانب العديد من الدول على هذه التكنولوجيا فائقة التطور.
ومن خلال الاطّلاع على صفحة معهد تكنيون الذى يرأسه يعقوب ناجل، كان من اللافت ما تضمنه حديثه المنشور على صفحة المعهد من الدور الذى يقوم به هذا المعهد البحثى العلمى فى مساعدة الجيش الإسرائيلى فى حروبه الدائرة حاليًا خاصة فى غزة. وتضمن قيام الباحثين فى المعهد بتقديم دراسات تطبيقية لوسائل تكنولوجية لاستنساخ خرائط عن طريق تطبيقات الذكاء الاصطناعى لكشف الأنفاق فى غزة وتدميرها عن طريق استخدام الروبوتات.
كما يعكف المعهد على إعداد خطة هندسية لإنشاء شبكة قومية للملاجئ والأنفاق لحماية الإسرائيليين ولحماية المؤسسات من الهجمات الصاروخية التى قد تُشن على إسرائيل من أى جانب، وهو مشروع قومى سيستغرق تنفيذه عدة سنوات. وهذا مؤشر واضح على أن الدولة العبرية تُعِد نفسها لحروب كبيرة فى المستقبل.
ويبدو - حسب ما جاء فى هذه الوثيقة وأكدته تصريحات المسئولين الإسرائيليين - أن الدولة العبرية تستشعر حاليًا إحساسًا بالقوة الفائقة عسكريًا واستخباراتيًا نتيجة لامتلاكها ناصية هذه العلوم الحديثة وتطبيقاتها.
إن هذا التطور التكنولوجى العسكرى الإسرائيلى الضخم، الذى شاهدنا جزءًا من إمكانياته فى حروب إسرائيل على المنطقة مؤخرًا، وسياساتها الهجومية التى تعتزم الاستمرار فيها، يحتم على دول المنطقة أن تأخذ هذا التفوق الإسرائيلى فى الاعتبار، وأن تتعاون فيما بينها لجسر هذه الفجوة الكبيرة، ليس بالضرورة بغرض الهجوم، لكن بهدف الردع والدفاع إذا ما تغيرت الظروف، ولنا فيما يحدث عبرة.