ليالى الأنس فى كندا - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 26 سبتمبر 2025 1:47 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

ليالى الأنس فى كندا

نشر فى : الخميس 25 سبتمبر 2025 - 8:55 م | آخر تحديث : الخميس 25 سبتمبر 2025 - 8:55 م

عندما غنَت الرائعة أسمهان "ليالى الأُنس فى ڤينا" كانت تشير إلى نوع من أُنس الليل موجود "منه فيه" فى ڤينا بألحان الموسيقيين العظام: وهل تخفى ألحان موتسارت؟ وكانت تقصد عروض النمسا المسرحية الشهيرة التى لا ينقصها شئ من عناصر الإبهار.. هذا إذن معروف. لكن ليالى كندا تحتاج إلى ناس تصنع لها أُنسها، فمع أن صباحات ڤينا قد تتداخل مع صباحات ڤانكوڤر أجمل المدن الكندية على الإطلاق من حيث سحر الطبيعة واللون الأخضر على مدد الشوف، إلا أن مساءات ڤينا النابضة لا تشبه مساءات ڤانكوڤر الهادئة ولا أى مدينة كندية أخرى فى شئ حيث يوجد القليل جدًا مما يمكن عمله. طبعًا لا يخلو الأمر من زيارة فرقة موسيقية أمريكية أو مغن عربى يشعل ليل العاصمة أوتاوا ويضطر أهلها للسهر صبَاحى، لكن الفن النمساوى ينبع من الداخل، وهذا مختلف.
• • •
من طقوس زياراتى الصيفية السنوية لابنتى المقيمة فى كندا أن نجلس معًا كل ليلة لمشاهدة أحد المسلسلات اللبنانية. بشكل عام لم أعد أتابع المسلسلات فلم يعد لى صبر على انتظار تسلسل الأحداث من حلقة لأخرى بعكس زمان وأيام زمان عندما كنت أتابع بانتظام شديد حلقات مسلسلات "القط الأسود" و"بنت الحتة" و"القاهرة والناس". أيامها كان الوقت براحًا ووسائل التسلية محدودة جدًا والدراما بالغة الإحكام حتى أننى رغم مرور خمسين عامًا مازلت أتذكر الجملة الختامية لحفيظة هانم أو عقيلة راتب فى نهاية كل حلقة من مسلسل "عادات وتقاليد" وهى تندب حظها العاثر بالقول: عينى عليّ. كما لازلت أذكر داڤيد چونسون الذى لعب دور الطبيب ريتشارد كمبل فى المسلسل الأمريكى "الهارب". عمومًا ذهب هذا العصر الجميل لحاله، ولم أعد أتابع المسلسلات إلا فى حالتين: شهر رمضان باعتبار المسلسلات من الطقوس الرمضانية لكثير من الأسر المصرية، والشهر الذى أقضيه فى كندا كفرصة للجلوس أطول وقت ممكن مع ابنتى. تأتى الساعة الثامنة مساءً ونطمئن إلى أن المحلات التجارية أغلقَت أبوابها والحمد لله ولم تعد هناك فرصة للخروج، ثم نجلس -هى وأنا- لنتابع المسلسلات اللبنانية بالذات. أعتز كثيرًا بأننى أورثت بنتى وابنى حبى للبنان وحب كل ما يأتى من لبنان: الثقافة والشياكة والطعام والبذورات والزهورات وحلاوة الروح والفهلوة ومكتبة أنطوان وبُن الرفاعى وبيت مِرى، ولو أن لبنان فى الحقيقة ليس فى حاجة إلى خدماتى ولا إلى خدمات غيرى، فهو يدخل مباشرةً إلى القلب ويتربع فيه دون حاجة إلى وسطاء.
• • •
ومع أننا اعتدنا- ابنتى وأنا- أن نشاهد المسلسلات اللبنانية بشكل دورى كل سنة، إلا أن صيف هذا العام شهد تحطيم كل الأرقام القياسية لعدد المسلسلات والحلقات التى تابعناها معًا: 5 مسلسلات بواقع ٣٣٨ حلقة بالتمام والكمال، فحلقات المسلسل الواحد كانت تتراوح بين ٣٠ حلقة كحد أدنى و٩٠ حلقة كحد أقصى. وهذا المط الشديد للأحداث مثّل تحديًا لنا لا يمكن إنكاره، لكننا بعون الله أتممنا المهمة بنجاح. وحتى عندما أوشكتُ على العودة للقاهرة قبل الانتهاء من متابعة أحد المسلسلات من أصحاب الـ٩٠ حلقة لم نعدم الوسيلة لإنجاز الهدف، فكنت أشاهد بمفردى بعض الحلقات فى الصباح أثناء وجود ابنتى فى العمل، وعند عودتها بعد العصر ألخّص لها الأحداث. طبعًا يمكن ملاحظة أن الدراما اللبنانية فقدَت بذلك التلخيص جزءًا مهمًا من وظيفتها الأساسية أى الجمع بينى وبين ابنتى فى جلسات حميمة للمشاهدة والنقد والتعليق. لكن على الجانب الإيجابى صارت لنا خبرة يُعتد بها فى المقارنة بين أطوار حياة -وليس فقط بين أدوار- الممثلين اللبنانيين وأيضًا السوريين الذين يحظون بمساحة متزايدة على خريطة الدراما اللبنانية، وبات بإمكاننا أن نتابع تطور نضجهم من الناحيتين الفنية والعُمرية ما بين مسلسل وآخر. كذلك وفرَت لنا هذه الدراما متعة بصرية لا حدود لها، وإن لم أسعد كثيرًا بتصوير عدد كبير من المشاهد وربما مسلسلات كاملة فى جبال تركيا لأن جبل لبنان لا مثيل لجماله وأناقة منازله المترامية عند السفح والمختبئة فى تلافيف الطرق الجبلية.
• • •
وإضافة إلى ما سبق تحسّنت بشكل ملحوظ حصيلتنا اللغوية من القاموس الشامى وما ألذّه من قاموس. وهكذا ولأيام طويلة ظللت أنادى زوج ابنتى بـ"صهر" كما فى مسلسل "كريستال"، تعالى يا صهر روح يا صهر، و"نقزتني" (فاجأتني) يا صهر، و"بُق البحصة يا صهر" (بُح بما تتردد فى قوله)، و"كستر" (تنزّه) بالعربية شوية يا صهر. ومع أن صهر كلمة عربية فصيحة، إلا أننى اكتشفتُ أنه يتم تشبيكها مع المفردات العامية بسلاسة شديدة حتى على المستوى الشعبى كمستوى عائلة الناطور (البواب) مثلًا. وأصبحَ مصطلح "حازتّك في" (سألقى بك في) مصطلحًا دارجًا على لسان ابنتى من كثرة ما سمعَت عن "الزّت فى الحبوسة أى السجن" فى معظم المسلسلات تقريبًا، وألطف من ذلك مصطلح "تتختخ فى الحبوسة" (ما نسميه فى العامية المصرية حاتخلل فى الحبس). ورحنا نحن الاثنتين نتبارى فى عدد الكلمات التى التقطناها من المسلسلات اللبنانية الخمس، تقول لى ابنتى "حاچ" (إياكِ) تتأخرى، وانتِ "ع قد حالِك" (قدها وقدود)، والولد ده "كربوچ" (سمين). فأرد عليها بأن فلانًا "مقطّع موصّل" (أى مقطّع السمكة وذيلها كما نقول)، ولا "تبربري" (لا تثرثري)، و"كنكني" (ارتاحى أو استكيني) شوية.
• • •
ونسّتنا المسلسلات اللبنانية فى الأمسيات الكندية الممّلة، وقرّبتنا من ست الدنيا التى زاد إليها الشوق مع انقطاع سبل زيارتها من عدة سنوات -وكأنما تخشى أن ننساها إن هى لم تونسنا، لكن أى قلب هذا الذى يتحمّل أن ينسى لبنان؟ وأعطتنا المسلسلات اللبنانية أيضًا جرعة مكثفة من حب الحياة تعوضنا عن إحباطات فوق إحباطات، فيكفى أن نرى الممثلة الرائعة باميلا الكيك بطولها الفارع وتناسق ألوانها وإبهار حليها وكأنها خرجَت لتوها من كتالوج حتى نتأكد أن لبنان وأهل لبنان غير شكل، وحتى نثق أن فى الحياة جمالًا يستحق أن نكافئ أنفسنا برؤياه.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات