هذا هو المقال التاسع عشر في سلسلة المقالات الخاصة بالشخصية القبطية في الأدب المصري. ومقال هذا الأسبوع عن كتاب "صلاة خاصة" لصبحي موسى، والصادر في عام ٢٠١٩ عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. والصلاة الخاصة كما وصلتني هي القراءة الخاصة بكل فرد والتي تشمل كل النصوص بما فيها النصوص الدينية نفسها. وبالتالي فكما رأى البعض أن دير الملاح الذي تدور فيه معظم أحداث الرواية كان أقرب للعلمانية منه للإكليروس ومنفتح على كل الأفكار إلى أن سقط في يد ثلة من الرهبان المنغلقين المتآمرين، رأى البعض الآخر أن الدير كان قِبلة للعلم ثم دخلَته مجموعة من الرهبان المهرطقين المفسدين للدين. وهكذا فنحن إزاء صلاتين مختلفتين أو رؤيتين مختلفتين لتاريخ الدير .
• • •
الشخصية الرئيسية في العمل هي الراهب أنطونيوس خريج كلية الآداب قسم اجتماع، الذي حاول أن يكون ناشطًا في جامعته ففوجئ بأنه لم يحصل سوى على صوته في انتخابات اتحاد الطلاب، وبالتالي انضم إلى فريق الكشافة المسيحي الذي كان واجهة لجمع التبرعات للكنائس والأديرة. وعندما هاجمت مجموعة سلفية قريته وفرضت الجزية على أقباط القرية، تقدم أنطونيوس ببلاغ إلى المأمور الذي طمأنه على أنه لا أحد يستطيع التعرض لمواطن في زمامه، فتشجّع وواجه زعيم الجماعة بأن "الأقباط في حماية الدستور والقانون"، فإذا بالأمير يصلبه ويجلده ويكلفه بجمع الجزية حتى من والديه، وعندما امتثل أنطونيوس رأى بعينيه والديه وهما يسقطان كمدًا. هذا المشهد القاسي سيكون نقطة تحول أساسية في حياة أنطونيوس، إذ انحرف بعده إلى طريق الخطيئة واحترف القتل والنهب، وكان أول دم جرى على يديه هو دم أمير الجماعة السلفية. أما نقطة التحول الثانية فارتبطت بلقائه بالأب إيمانويل ذلك الراهب المستنير الذي صعد إلى رئاسة دير الملاح، وتمكّن من إقناع أنطونيوس بأن يذهب معه. وهناك شكّل إيمانويل الرئيس مع باخوميوس كاهن الاعتراف وأنطونيوس الذي كُلّف بشؤون المطبعة- ثالوثًا متناغمًا ومحافظًا على رسالة الدير: استيعاب كل المختلفين. ثم أتت نقطة التحول الثالثة والأخيرة في حياة أنطونيوس عندما تنيّح الأب إيمانويل المستنير بُعيد اندلاع ثورة يناير، وهذه إشارة ملغزة في الرواية، فوفاة إيمانويل تؤشّر لأن الإصلاح الذي كان يؤمل من ثورة يناير أجهض مبكرًا، لكن من جهة أخرى سنعرف لاحقًا أن إيمانويل والتيار الذي يمثله شاركا في إجهاض الثورة، لأنه عندما قام أنطونيوس بمفاتحة إيمانويل في أن الكنيسة يجب أن تكون حيث يكون الشعب ردّ عليه بالقول "إن الكنيسة الأم تعرف في السياسة أكثر من الساسة". ومع رحيل إيمانويل سقط الدير في يد الثنائي چورچ المنحنى رئيس الدير ويوساب الذي حلّ محّل باخوميوس كاهناً للاعتراف، فسارا على تراث الأولين بالممحاة، وحوّلا الدير ومحيطه من مساحة آمنة للبشر والحيوان والطير إلى بؤرة للترصد والتربص بالمختلفين. تآمر كلاهما على أنطونيوس بدعوى أنه طبع رسائل أوريجانوس أدامانتوس-تلك الشخصية المحورية والخلافية بامتياز في تاريخ الكنيسة المسيحية. فلقد عاش أوريجانوس بين القرنين الثاني والثالث الميلاديين، ووصفه تلامذته وهم منتشرون حول العالم-بأنه علّامة وأهم شارح للكتاب المقدس وصاحب الأثر الأكبر على تطور فكر مدرسة الإسكندرية، أما البابا ديمتريوس الكرّام فقد عدّه مهرطقًا واستصدر قرارًا من المجمع المقدّس بإبعاده عن الإسكندرية ثم ببطلان كهنوته. وهكذا اشترك أنطونيوس مع أوريجانوس في أنهما معًا تعرضّا للإيذاء والاضطهاد لأن أوريجانوس سبح بفكره عكس التيار، وكان أنطونيوس من السابحين معه.
• • •
سيقودنا التحقيق مع أنطونيوس بتهمة تبديد أموال الدير في طباعة أعمال المهرطق أوريجانوس إلى الشخصيتين المحوريتين الأخريين في الرواية. شخصية دميانة خريجة كلية الحقوق التي انضمت للدير كمحققة في ما يجري فيه من مخالفات، وشخصية ملاك ميخائيل كاتب الدير وراوي تاريخه. فمنذ أن مثَل أنطونيوس أمام دميانة لتحقق معه حتى تبادلا الإعجاب، وسيكون هذا الإعجاب سببًا جديدًا من أسباب سخط رئيس الدير على أنطونيوس كما أنه كان سببًا للتخلص من دميانة بل ومحاولة قتلها. وسوف تتشابك خيوط حياة دميانة دون ترتيب مع خيوط حياة أنطونيوس، فوالدها المحامي الشيوعي صلاح متري كان من مؤسسي جماعة "الأمة القبطية" مع إبراهيم هلال ومؤيدًا مثله لمطالب إصلاح الكنيسة من الداخل وإصلاح علاقة الدولة بالأقباط. لكنه في الوقت نفسه كان يرفض منهج إبراهيم هلال العنيف في فرض الإصلاح بالقوة، وكان منهج أوريجانوس في الإصلاح عن طريق الفكر أكثر قربًا إليه حتى أنه حاول تأسيس جمعية خاصة بأوريجانوس، لكن الكنيسة رفضَت. بقول آخر، صار أوريجانوس نقطة التقاء بين دميانة وأنطونيوس. ومن خلال تغريبة دميانة بعد إفلاتها من محاولة قتلها- سنطل على وجه آخر من أوجه تعقيدات العلاقة بين المسلمين والأقباط. فعندما استضافها رضا وأسماء الصعيديان المسلمان في بيتهما بالقرية وقاما بتمريضها ورعايتها-حاصرهما أهل القرية بأسئلة من نوع: هل يجوز لمسلم أن يأوي مسيحية بل وهل يجوز له أن ينفق عليها؟ وعندما لجأ رضا لأقباط القرية المجاورة لاستضافة دميانة وإنقاذه من الموقف المحرج الذي يواجهه- رفضوا طلبه لأن دميانة ليست على "ملّتهم"، أي مذهبهم. أما سلفيو القرية فلقد تصرفوا كعادتهم من وحي شعورهم بأنهم في مهمة جهادية، فكان أن تقدم الشيخ هاشم للزواج من دميانة، لكن رضا ماطل كرجل يشعر بالمسؤولية عن شابة فاقدة الوعي (مؤقتًا) ساقتها إليه الظروف، فإذا بالسلفيين يحاصرون بيته ويحاولون إحراق الجميع. أما ملاك فإنه في الأصل لقيط ألقي به وهو طفل رضيع أمام باب الدير، ثم عُهد إليه بمهمة التدوين. إنه الشخص المشكوك فيه لتعاطفه مع أنطونيوس، وهو في الوقت نفسه الشخص المطلوب استمالته لأنه يمثّل ذاكرة الدير ولأنه كاتم الأسرار وحامل الرسائل. تعلّق ملاك بدميانة لكنه لم يصارحها بمشاعره لعلمه بأنها تحب أنطونيوس، ثم بلغَت تضحية ملاك مداها عندما انحاز لأنطونيوس ضد محاولة توريطه في إخفاء دميانة و في قتل باخوميوس.
• • •
هذا هو ملخص خط واحد من رواية "صلاة خاصة" وهي رواية ضخمة من ٥٥٣ صفحة من القطع الكبير. وقد اخترتُ التركيز على هذا الخط لأنه يتصل مباشرةً بكيفية تناوُل الشخصية القبطية في الأدب المصري. إذ تدور الشخصيات القبطية في "صلاة خاصة" داخل دوائر لا نهاية لها من الاضطهاد: من الدولة، للمجتمع، للجماعة القبطية نفسها. كما أنني اخترتُ هذا الخط في الحكي لأن الخط الآخر في الرواية يغرق القارئ في جدالات لاهوتية شديدة الدقة والتخصص والتعقيد والتفصيل حول طبيعة السيد المسيح والأقانيم الثلاثة وعلاقتها ببعضها البعض، وهذا يحتاج لقارئ متخصص في ثقافة المسيحية وتاريخها.
• • •
الرواية شديدة الدسامة والعمق ومتعددة الأصوات أو الرواة، فمع أن صوت ملاك الكاتب هو الصوت المسموع في معظم الأجزاء الثلاثة للرواية كمؤرخ للدير، إلا أننا نستمع أيضًا لصوت أنطونيوس الراهب وصوت دميانة المحققة، ويتمازج ذلك كله مع رسائل/اعترافات العلاّمة أوريجانوس إلى صديقه ديونسيوس بابا الإسكندرية. وتمتد الرواية زمنيًا من القرون الأولى للمسيحية حتى الألفية الثالثة. أما عن نبوءة الرواية التي تأتي في صفحاتها الأخيرة، فإنها تتمثل في انتصار تيار الإصلاح بانتصار أنطونيوس ودميانة على كل المتآمرين، وإن يكن هذا الإصلاح قد تمّ خذلانه في غمار ثورة يناير، وبمشاركة من الجميع. وهذه هي صلاتي الخاصة.