• سُجّل فى الأشهر الأخيرة ارتفاع حاد فى الحوادث الأمنية الموجهة من أفراد أو فصائل فلسطينية ضد إسرائيليين. ويطرح التفات الرأى العام إلى هذه الظاهرة السؤال الملح التالى: هل هذه بشائر انتفاضة؟
• حتى الآن، لا يبدو أن سلسلة الحوادث الأمنية الأخيرة تنذر بانتفاضة ثالثة، ولكن يبدو أنها نتائج غير منسقة على الأرجح لمسارين حاليين: المفاوضات السياسية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية من جهة، ووضع حركة حماس الصعب على الصعيدين الإقليمى والداخلى من جهة ثانية.
• وبالإضافة إلى ذلك، هناك أعمال فردية غير متصلة بالضرورة بهذين المسارين نابعة من دوافع شخصية تسهم فى تزايد عدد العمليات.
فعلى سبيل المثال، قتل الجندى عيدان أتياس على يد شاب فلسطينى يزعم أنه قام بذلك انتقاما لسجن أحد أقاربه.
• قد يكون من المفيد فى هذا الإطار تعقب ديناميات شبكات التواصل الاجتماعى التى تشكل اليوم أداة رئيسية فى التنظيم السياسى، علما بأن هذا لا يضمن توقع الانتفاضة مسبقا. ويعبّر الكثير من مستخدمى هذه الشبكات فى الضفة الغربية عن تخوفهم من حصول عملية إسرائيلية واسعة تؤدى إلى سقوط العديد من الفلسطينيين، وخصوصا من إمكانية خروج استفزازات المستوطنين
من جماعة «تاغ محير» جباية الثمن المتطرفة عن كل سيطرة، الأمر الذى قد يؤدى إلى كرة ثلج من حوادث احتجاج قد تتحول فى نهاية المطاف إلى انتفاضة مستمرة.
• وعلى الرغم من أن الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى يشكان فى إمكانية نجاح المفاوضات، فإن معاودتها يهيّئ مناخا مريحا لدى أقسام واسعة من الجمهور الفلسطينى، والذكرى الأليمة لانتفاضة الأقصى باقية حتى الآن وتشكل كابحا رادعا. يضاف إلى ذلك مناخ عدم الاستقرار الإقليمى فى أعقاب الربيع العربى. كما ينبغى أن نأخذ فى الحسبان الاستقرار الاقتصادى فى الضفة الغربية، لا بل الانتعاش الاقتصادى النسبى فى العام الأخير. وعليه، كيف يمكن تفسير التصعيد الحالى؟ هناك النمط المعهود وهو أن المنظمات المتطرفة على الساحة الفلسطينية تكثف عملياتها كلما استعيد مسار المفاوضات السياسية.
• غير أنه حدث تغيّر لافت فى هذا النمط فى الأعوام الأخيرة: فحركة حماس التى كانت فى تسعينيات القرن العشرين المنفذ الرئيسى للعمليات، ليست معنية اليوم بتصدر هذه الجبهة لأسباب براغماتية على رأسها الحفاظ على رصيدها السياسى المتراكم منذ السيطرة على قطاع غزة فى عام ٢٠٠٧، علما بأن رؤية الحركة لا تختلف كثيرا عن رؤية الفصائل الأخرى المناهضة لإسرائيل، وعلى رأسها تنظيم الجهاد الإسلامى الذى ازداد قوة منذ التسعينيات وأصبح بمثابة وكيل أعمال لإيران.
• ولكن، وبرغم اعتبارات البقاء، يصعب على حركة حماس إبداء معارضة صريحة لنشاط منظمات كالجهاد الإسلامى وسائر الفصائل المتشددة الأخرى، فتحاول بالتالى شق طريقها بين سندان هذه الفصائل والمطرقة الإسرائيلية.
• بيد أنه منذ اندلاع الربيع العربى طرأت متغيرات جديدة بدّلت البيئة الجيوسياسية التى تعمل فيها حركة حماس. فمن ناحية، شكل صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم فى مصر فاتحة أمل بالنسبة للحركة. ومن ناحية أخرى، أجبرت الحرب الأهلية الدامية فى سوريا حركة حماس على التخلى عن مشاركتها فى محور «المقاومة» الذى تقوده إيران ويضم كلا من حزب الله والجهاد الإسلامى، بسبب دعم هذا المحور للأسد.
• وكان من المفترض أن تستفيد الحركة من التغيير الاستراتيجى المتمثل فى الدعم المهم الذى تلقته من مصر بقيادة مرسى، خصم الأسد، لكن إزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن السلطة فى الصيف الفائت أحرقت جميع الأوراق. فالحكومة المصرية الجديدة بقيادة الجنرال السيسى، حوّلت حماس إلى اسم مرادف للإرهاب وحاربت الحركة بقسوة، ودمرت مئات أنفاق التهريب التى هى بمثابة أنبوب الأكسجين الاقتصادى والعسكرى لقطاع غزة. وتسببت هذه التطورات بعزلة سياسية للحركة وبمعاناة اقتصادية انعكست مباشرة على الواقع فى قطاع غزة.
• ومع أن المجاعة لا تسود القطاع لكن هناك نقصا خطيرا فى الوقود وساعات التغذية بالكهرباء تصل إلى أربع ساعات فقط فى اليوم. ويمكن بوضوح رصد شعور سكان القطاع بالإحباط، والموجه بدرجة كبيرة ضد الحركة، عبر شبكات التواصل الاجتماعى.
• على هذه الخلفية، وفضلا على الضغوط الداخلية فى قطاع غزة من قبل الفصائل المنافسة، تخشى الحركة فقدان مشروعيتها وتضرر سيطرتها. ومن هنا، ظهرت أخيرا دلائل تقارب بين حركة حماس ومحور جبهة المقاومة وإيران مثلما رشح من تصريح لمحمود الزهار فى 10/12/2013 علما بأن الزهار عارض من الأساس الابتعاد عن إيران. ومن شأن هذا التقارب أن ينعكس عبر سياسة أكثر تساهلا حيال الاعتداءات التى تحاول تنفيذها الفصائل المتشددة وعلى رأسها تنظيم الجهاد الإسلامى.
• كما ان حركة حماس لا تزال تراهن على فشل المفاوضات السياسية، وقد سمعت أخيرا فى هذا الخصوص تصريحات غير قليلة على لسان الناطقين باسم الحركة.
• ومن جهة أخرى، فإن العمليات المنفذة ضد إسرائيل داخل الضفة الغربية لن تؤدى بالضرورة إلى عمليات انتقامية ضد حركة حماس فى قطاع غزة، وهكذا تستطيع الحركة تفادى تدهور إضافى فى وضعها.
• لكن دوائر السلطة الفلسطينية تعى أن هناك محاولات لزعزعة الاستقرار فى الضفة الغربية. ومن هنا، يتواصل التعاون الأمنى الناجع مع إسرائيل من خلال الرؤية القائلة بأن التدهور لا يخدم علاقات الفلسطينيين بإسرائيل، ولا علاقات الفلسطينيين بالأسرة الدولية، ولا مكانة السلطة على الساحة الفلسطينية الداخلية. أما اللاعبون الرئيسيون فى هذا الإطار فهم رجال الأجهزة الأمنية للسلطة الذين ازداد نشاطهم منذ انتهاء الانتفاضة الثانية.
• وفى الختام، ما دام هذان المساران مستمرين ــ أى المفاوضات السياسية من جهة وزيادة الضغوط على حركة حماس من جهة ثانية ــ ستتواصل الأعمال العدائية على ما يبدو.
• لكن وعلى الرغم من تنامى هذه العمليات، فهى لا تنذر بالضرورة بانتفاضة شعبية واسعة النطاق على المدى القريب. ومع ذلك، إذا لم تسفر المفاوضات عن نتائج ملموسة، أو إذا طرأ عنصر جديد غير متوقع ومؤثر فى منظومة القوى الحالية، فليس هناك ما يضمن ألاّ يلعب «جيل المعنيين» من الشباب دورهم المعهود فى حمل القسط الأكبر من الانتفاضات على أكتافهم.