فئة ليست بالقليلة من الإعلاميين المصريين غير قادرة على التمييز بين حرية الرأى والتعبير وبين إساءة الأدب ولى الذراع وابتزاز المخالف، غير قادرة على ممارسة نقد ٍموضوعى أو إدارة نقاش متحضر غير قادرة على فهم مسئولية الكلمة وخطورة التعليق وأهمية تحرى الدقة.
لا أحصى كثرة عدد المرات التى سمعت فيها من يتحدث عن ميثاق شرف إعلامى يضع نوعا من الالتزام الأدبى على العاملين بهذا القطاع بالغ الحساسية.. فقط مجرد الالتزام الأدبى، وما من مجيب!
أزمة حقيقية بين القاهرة والرياض يسببها الآن إعلاميان ينتميان إلى مدرسة فجاجة الطرح وبذاءة العرض بانعدام مسئولية منقطع النظير.. وقد قاسينا قبل ذلك من تجربة إعلاميين اندفعوا فى هوج وهمجية ليأججوا نارا مستعرة بين القاهرة والجزائر قبل خمس سنوات من الآن، ولولا أن تداركتنا العناية الإلهية ثم التغيرات الهائلة التى زحفت على المنطقة لما كان هذا الخرق ليلتئم.
ومن قريب كادت مذيعة مستهترة أن تقضى على كل جهود القاهرة الدبلوماسية والاستخباراتية الرامية لإنهاء الأزمة مع إثيوبيا وقت أن أنهت مكالمة على الهواء مع السفير الإثيوبى، مغلقة الهاتف فى وجهه!
وإعلامية أخرى كادت أيضا أن تتسبب بأزمة دبلوماسية بين القاهرة والدار البيضاء لولا تدخل وزارة الخارجية بالاعتذار الصريح عن فاصل من البذاءة وسوء الأدب تحدثت به المذيعة عن شعب المغرب بأكمله بصفاقة منقطعة النظير!.
أما عن (التطرف الفكرى) فحدث ولا حرج.. والعنوان الجاهز للاستدعاء دائما هو (حرية الفكر)، كل فاشل ٍمغمور بالكاد قرأ كتابين أو ثلاثة يُحسن أن يجعل من نفسه مفكرا ويصنع منه الآخرون بطلا إذا ما طنطن بكلمتين على غرار التنوير والحداثة ومحاربة خفافيش الظلام وإذا ما تحدثنا عن تطرفه الفكرى زعقوا بأعلى الأصوات: (حرية الفكر)!.
سهل ٌجدا أن تزين حديثك بكلمات على غرار «تنوير ــ ثقافة ــ فن ــ تقدم ــ فكر ـ خفافيش الظلام ــ أعداء الحرية ــ إلخ» لتروج على البسطاء تشبعك ثقافة وامتلاكك مشروعا نهضويا أو فكريا.. فإذا ما أنصت المنصف العاقل لكلامك دقائق معدودات أدرك افتقادك للقدرة على سوق المعانى المنطقية أو حتى على الحديث بشكل ٍمرتب وموزون!
سهل ٌجدا وأنت تدعى مواجهة الفكر بالفكر أن تمارس كل مظاهر الإقصاء والعنصرية وفاشية الصوت الواحد وتصادر على كل حقٍ للرد أو النقاش فى نفس الوقت الذى تملأ فيه الدنيا صياحا عن «تعصب» الآخر، و«عنصرية» الآخر، و«فاشية» الآخر، ولا تبصر من نفسك التناقض المذهل، التناقض الفج، التناقض المضحك!
الأسهل من ذلك كله أن تدعى بعد ذلك أنك ضحية للإرهاب الفكرى والفاشية الدينية إذا ما أظهر أحدهم تهافت أفكارك ــ مع ألم شديدٍ يعتصرنى وأنا أصف السُخف بالأفكار تجوزا ــ أو سخر من غرابة ألفاظك وركاكة حديثك ــ مع خجلٍ ينتابنى وأنا أصف الحوار السوقى بالحديث تجوزا ــ أو اضطر مرغما مكرها على تفنيد بعض حججك الواهية ــ مع نوبة ضحكٍ تشتملنى وأنا أصف الهراء بالحجج تجوزا أيضا!
نفس (الإرهاب الفكرى) الذى يدعون تأذيهم من جرائمه هو الذى يمارسونه ضد من يفضح جهلهم وتحاملهم على (الثوابت) وعدم جهازيتهم لنقاش علمى محترم وتفصيلى يصطلح به كل فريق على حقه.. ونفس (التطرف الفكرى) الذى يرمون به غيرهم هو الذى تنضح به كتاباتهم وتنطق به على شاشات التليفزيون ألسنتهم.. نفس (الفاشية) التى تدعو إلى حرق الآخر وإخراجه نهائيا من واقع الناس ومستقبلهم هى هى التى نراها فى المعسكر الآخر.. فقط مع تبديل الانتماءات وتغيير العناوين!