لا للتحرش.. ولكن - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا للتحرش.. ولكن

نشر فى : الثلاثاء 3 مايو 2016 - 10:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 3 مايو 2016 - 10:00 م
جلست على الأريكة الخشبية الأنيقة المنصوبة على رصيف أحد أهم شوارع نيويورك. حمدت مهندس المدينة الذى اختار موقع الأريكة فجعل الجالس عليها يواجه المارين والمارات وظهره إلى السيارات. لا شىء مثيرا فى منظر سيارات نظيفة تجرى بنظام وانتظام، لا تسرع ولا تزحف ولا تخرج عن حارة اختارتها، فلا حاجة إلى شرطى مرور. الاشارات الحمراء والصفراء والخضراء تتولى بدقة مهمة ارشاد العابرات والعابرين وتحذير السيارات وإيقافها أو الإذن لها باستئناف السير. ممل جدا مشاهدة منظر لا خروج فيه على النظام ولا تمرد ولا خناقة ولا شرطى مرور يمد يده فى اتجاه قائد سيارة أو قائد سيارة تمتد يده فى اتجاه شرطى مرور، إن وجد.

***

أنصح زوار نيويورك بأن يفعلوا مثل ما فعلت. يجلسون على أريكة فى الرصيف العريض الذى يعبر بحق عن حال مدينة «عالمية» يحترم محافظها، وفى هذه الحالة عمدتها، الناس الذين ما زالوا يستخدمون أقدامهم. الشارع فى نيويورك كالشريان فى جسم إنسان، هو الدليل على جودة الحياة فى الحال وفى المستقبل، لا إشغالات تعطل انسياب الحركة، لا صعوبات أمام المشاة على الأرصفة، ولا مطبات فى رحم الطريق، لا جلطات.

***

أخذت مكانى حين كادت الساعة تقارب منتصف النهار، أى حين تفرج أبواب البنايات الشاهقة عن مئات العاملين فيها، تراهم يتدفقون على الرصيف فى الاتجاهين ليعودوا بعد دقائق وفى يد كل منهم هذا الكيس الأصفر «الهافانا»، علامة أخرى من علامات أمريكا. أنت لست أمريكيا إن لم تحملها. إفطارك فى داخلها وغذاؤك ومشترياتك من الخضرة والفاكهة وما تبقى من أصناف الطعام على مائدتك فى المطعم تحمله فيها للحظة تجوع فيها أنت وكلبك. تراهم فى الظهيرة وفى يد كل منهم هذا الكيس يحمل أكلة سريعة وفى اليد الأخرى كوب المياه الغازية. الخيار أمام هؤلاء المتدفقين فى اتجاه دكائن الأكلات والعائدين منها هو تناول غذائهم على أريكة خشبية فى الشارع كتلك التى سبقتهم اليها، أو على مكاتبهم.

***

من حسن حظى أن وقع اختيار امرأة أنيقة تعمل فى البناية المواجهة أن تتناول غذاءها على الأريكة. كانت مثل كثيرات من المارات أمامى ترتدى طاقما غامقا كأطقم الرجال، يميزها عن الرجال رشاقتها وشعر مصفوف بعناية ووجه مرت عليه بهدوء وبدون انفعال شديد مساحيق وألوان رقيقة، وفى قدميها حذاء بكعبين لهما وقع شديد عند لمسهما الرصيف. خيل لى وأنا أسمع عشرات الأقدام تمر أمامى وتصدر هذا الصوت القوى أن نساء نيويورك يؤكدن بأعلى صوت ممكن أنهن متمكنات.

* * *

على مدى عشرين دقيقة كان التمكن والتمكين أحد موضوعات الحديث الذى دار بين المرأة النيويوركية الأنيقة وبينى. تأكدت أننا فى نيويورك عندما فتحت جليستى على الأريكة الكيس الهافانا وأخرجت الشطيرة وبدأت تقضم من نصفها دون أن تعرض على شريكها فى الأريكة مشاطرتها النصف الآخر، أو بعضا من البطاطس المقلية. كان حديثها، كما قال أسلافنا، طليا. أظن بالفعل أنه كان ممتعا. رأيت أمامى الثقة متجسدة فى إنسان. إنسان يعرف ماذا يريد ومتى يريد وكيف يصل إلى ما يريد. راحت أفكارى تتمنى لنساء ورجال عديدين فى سلطة الحكم وخارجها أعرفهم وتركتهم خلفى فى مصر أن تكون لديهم الثقة فى النفس التى تتمتع بها هذه المواطنة العادية. قالت، بين كثير مما قالته، إن النساء فى أمريكا عامة ونيويورك بخاصة، حققن إنجازات هائلة بفضل التغير الجوهرى الذى حدث عند جنس الرجال، ولكن أيضا بفضل إصرار المرأة الأمريكية على أن تحصل على حقوقها التى لقنتها إياها أجهزة الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى، وأكثرها منظمات تمولها الحكومة الفيدرالية فى واشنطن، تمويل أجنبى يعنى!

* * *

قالت إن مناصب القيادة العليا فى الشركة التى تعمل فيها، مشيرة بأصابع لا تحمل خواتم باستثناء واحد يكاد لا تراه العين المجردة إلى المبنى الواقف أمامى، صارت متاحة للنساء نظريا وقانونيا وإداريا، وممكنة عمليا، بل إن زميلة لها انضمت مؤخرا إلى مجلس الإدارة بعد أن تقدمت بمبادرة عمل وفرت أموالا للشركة. كذلك لم تعد توجد فروق بين مرتبات الرجال ورواتب النساء فى الوظيفة الواحدة. الانجاز الذى تحقق مؤخرا وتسبب فى سرور نساء كثيرات، منح بعض الولايات الآباء الحق فى إجازة «وضع» ليتولى الأب إدارة شئون البيت والعائلة خلال الوضع وبعده، وليتولى بين الحين والآخر الاختلاء بأطفاله.

***

سألتنى عن ملاحظاتى عن المرأة الأمريكية بعد غياب طويل عنها، أجبت بأننى من خلال موقعى على هذه الأريكة لساعتين كل يوم على مدى الأيام الثلاثة الأخيرة، أستطيع أن أقر أننى لم أشهد واقعة تحرش جنسى واحدة. بل ورحت خلالها أسأل من جالست ومع من تحادثت، فكان الاجماع يؤكد أن التحرش كاد يختفى فى المواصلات العامة. لاحظت أيضا أن الرجال لا يحدقون فى النساء فى المقاهى والمطاعم ودور السينما وعلى الطرق. هنا، وجدتها تشير بعينيها فى وداعة وأدب أن أتوقف عن الكلام. توقفت فقالت، أرجوك لا تتخيل للحظة أننا كنساء أينما نكون، فى العمل أو فى الطريق أو فى المترو يمكن أن نكون سعداء بملاحظتك. من قال إننا لا نريد أن يحدق فينا الرجال. ثق أنه لا امرأة أعرفها ترفض اطراء هامسا أو ساكنا من رجل. لقد تسببت حملات التحرش، يا صديقى، فى ترهيب زملائنا فى العمل فصاروا يتجاهلوننا. هم الآن يلقون بتحية الصباح من بعيد، ويتحدثون إلينا كما يتحدثون إلى بعضهم البعض، يسكتون عندما ندخل عليهم أو يغيرون الموضوع. لا يا سيدى، لا نريد هذا.

* * *

مرت الدقائق العشرون. نظرت إلى ساعتها ونهضت معتذرة بأن ساعة التدخين قد حانت. حيتنى بدون مصافحة باليد كعادة أغلب الأمريكيين واتجهت صوب مدخل العمارة الشاهقة لتقف مع زملاء وزميلات لها يدخنون. وبعد استهلاك سيجارتين أو ثلاث رأيتها تدلف مع مئات غيرها إلى داخل البناية.

أما أنا فتحركت بنية المشى قليلا نحو أريكة أخرى على رصيف يواجه سوقا عامرة بالزبائن والبضائع. وجدت المكان المناسب وجلست أراقب أهل نيويورك يتبضعون، ومن هناك انتقلت إلى محطة القطارات ثم المطار ومنه إلى مطارات ومدن أخرى، ألاحظ ما تغير فى تصرفات الأمريكيين وسلوكياتهم بعد مرور عشرين عاما.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي