فى تاريخ مصر حلقات مفقودة إما لأنها غير مكتملة وإما لأن معالجتها غير صحيحة، وإما لأن تاريخها كُتب بصورة غير صحيحة، فى البدء احتفلت مصر فى عام 1969 بمرور ألف عام على مدينة القاهرة، واعتبر أن هذا الحدث هو احتفال بمرور ألف عام على عاصمة مصر المعاصرة، التى أسسها الفاطميون، وفى حقيقة الأمر أن القاهرة لم تكن يومًا عاصمة مصر، فعندما أسست كانت مجرد حصن يحتمى به الخليفة الفاطمى وجنوده، أما عاصمة مصر فهى كانت مدينة مصر التى كانت أكبر مدن إفريقيا حجمًا وأكثرها ازدهارًا، مصر هذه مدينة لا يعرفها أهل مصر، فما هى مصر إذا التى كانت عاصمة لمصر؟
مصر هذه هى مدينة الفسطاط التى أسسها عمرو بن العاص عند فتحه لمصر، واستقراره فى الضفة الشرقية لنهر النيل، وتوزيعه الخطط على القبائل العربية التى كونت جيشه، كانت هذه المدينة فى بدايتها بسيطة، امتدت من شاطيء نهر النيل حيث جامع عمرو بن العاص الآن إلى مسافة قريبة من سفح جبل المقطم، وامتدت من حصن بابليون، حيث سكن أقباط مصر إلى حى السيدة زينب شمالًا، شهدت هذه المدينة انحسارًا فى السكان وبالتالى تراجع عمرانها، فقبيلة يشكر التى سكنت الجبل الذى يشغله حاليًا جامع أحمد بن طولون حاليًا تركت هذا المكان، وسكنت بالقرب من جامع عمرو، وتراجع سكان الفسطاط له سبب وجيه وهو أن القبائل العربية التى سكنتها، شاركت فى فتح ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، فاستقرت فى هذه البلاد، ثم تواصلت مع قبائل الفسطاط فنشأت حركة تجارة ضخمة من بلاد المغرب إلى الفسطاط ومن الفسطاط لبلاد المغرب، ومع انتشار العرب فى إفريقيا لنشر الإسلام وللتجارة صارت التجارة تأتى من غرب وشرق وجنوب إفريقيا للفسطاط، مع نهاية القرن الأول الهجرى، صارت التجارة تأتى من اليمن محملة بالبضائع الصينية والهندية إلى الفسطاط، استفادت الفسطاط إذا من القبائل اليمنية التى أتت مع عمرو بن العاص لفتح مصر واستقرت بها من علاقتها مع القبائل المستقرة فى اليمن والتى لها تجارة واسعة مع شرق العالم، مع مرور الوقت صارت الفسطاط مدينة تجارية ضخمة، وصارت واحدة من كبريات المدن فى العالم خلال القرن الثانى الهجرى، ولأنها بضخامة غير معتادة فى عصرها مع ثروات ضخمة، أطلق عليها العرب اسم مصر، ومصر هنا ليس اسم البلد الذى به المدينة، فكلمة (مصر) عند العرب هو المدينة الضخمة المترامية الأطراف، ومنذ تحول اسم الفسطاط إلى مصر، صار أهل مصر يطلقون على عاصمتهم مصر، ظلت هذه المدينة قلب التجارة الآتية من البحر الأحمر وإفريقيا، ومركز التجار الوافدين من أوروبا، لكن حدث أمران أولهما أنه فى العصر الأيوبى لم تعد القاهرة ذلك الحصن الذى يجلس فيه الحاكم مطمئنًا، لكنه صار حيًا من أحياء المدينة يسكنه الناس، ورأى صلاح الدين الأيوبى أن يبنى قلعة على جزء من جبل المقطم فصله عن الجبل بخندق، ولكى يحمى الفسطاط والقاهرة والضواحى ضمهما بسور كبير ممتد من جنوب جامع عمرو بن العاص إلى جامع الفتح قرب ميدان رمسيس حاليا، هذا السور هو أكبر سور أثرى باقى بعد سور الصين العظيم، وهو معلم معمارى لم يأخذ حقه إلى الآن، وكنت كشفت جزءًا من السور الشرقى الأيوبى فى حفائر أجريتها فى التسعينيات عند منطقة الدرب الأحمر، هذا الجزء من السور هو الذى قامت عليه حديقة الأزهر.

عزيزى القارئ حرق الوزير الفاطمى شاور الفسطاط أو بمعنى أدق جزءًا من الفسطاط، وهو الجزء الشرقى منها من جامع عمرو بن العاص إلى سفح جبل المقطم، وظن عدد كبير من الباحثين أن مدينة الفسطاط اندثرت، وهو فهم جانبه الصواب، إذ إن مدينة الفسطاط ما زالت موجودة إلى اليوم، والذى سبب اللبس هو أنه مع ضم صلاح الدين الأيوبى التجمعات الحضرية للعاصمة المصرية فى داخل سور واحد، أطلق على هذه التجمعات مدينة مصر، وهذه التسمية هى المقابل للمفهوم الجغرافى الحضرى لما يعرف اليوم بالمعايير الأوروبية القاهرة الكبرى، ولما صارت مصر هى هذا التجمع الحضرى الضخم، صار يطلق على الفسطاط مصر القديمة، وكان طرح النهر من أمام جامع عمرو بن العاص إلى خط مترو حلوان هو الامتداد المنطقى للمدينة، فقد كانت حركة التجارة بها كبيرة، خاصة مع نشاط نقل البضائع بالسفن من صعيد مصر إلى شاطئ مصر القديمة، فصار الشاطئ هو المحور الذى تقوم عليه حياة المدينة، بل لأهميتها شيد بها منذ العصر الأيوبى ثم المملوكى الأهراء السلطانية التى كانت مخازن الغلال الرئيسية فى مصر، ازدهرت الفسطاط أو مصر القديمة فى العصر المملوكى، حتى سكنها أمراء وكبار العلماء كالحافظ بن حجر العسقلانى الذى سكن فى خطط القبيلة التى ينتمى إليها.

كانت القاهرة مدينة الحصن الكبير، الذى كان يضم قصور الفاطمين، شيدت لسبب مهم، وهو أن علماء السياسة المسلمين كابن أبى الربيع قد اشترطوا على الحكام أن يسكنوا فى أطراف المدن هم وجنودهم، ولذا كانت القاهرة فى أطراف العاصمة مصر، وبمرور الوقت ومع الشدة المستنصرية فى العصر الفاطمى بدأت تتحول لمدينة يسكنها الناس، وفى العصر الأيوبى غادرها السلطان العادل بن الكامل ليسكن فى القلعة، وسرعان ما تواصل العمران فزحف فى المسافة بين القاهرة والفسطاط وامتد إلى الأزبكية، ثم إلى باب اللوق، وهذه الامتدادات هى فى مجملها عرفت بمدينة مصر، ولذا ما زلنا نحن القادمون من الفلاحين أو القادمون من الصعيد، نسمى عاصمة مصر مصر، حتى الدولة المصرية كانت تقر بهذه التسمية إلى ما بعد عام 1952، حيث كانت محافظة القاهرة تعرف باسم محافظة مصر، فمن أين أتت تسمية عاصمة مصر بالقاهرة، كانت القاهرة هى المدينة التى دارت فيها أحداث ألف ليلة وليلة، هذه الروايات الشعبية التى كتبت فى العراق فى العصر العباسى، ثم أعيد كتابتها بروح مصرية فى العصر المملوكى، كتبت بروح مصرية وأجواء القاهرة، فعرفت أوروبا مصر، تحديدًا القاهرة، عبر روايات ألف ليلة وليلة، فصار أهل أوروبا وساستها المغرمين بهذه الروايات يطلقون على عاصمة مصر القاهرة، وصرنا نحن نتبعهم فى هذا، وقلدناهم دون أن نعى أننا ندفن اسم عاصمة مصر، مدينة مصر المنسية، وهكذا نحن نقلد قبل أن نفكر ونتمعن، حتى المؤرخين والأثريين من المصريين، ما زالوا مُصرين على أن مدينة الفسطاط اندثرت، وأن القاهرة كانت هى عاصمة مصر، وهذا الخطأ الشائع لم يقع فيه المؤرخون المصريون فى العصور التاريخية الإسلامية، حيث فرقوا بين خطط حصن القاهرة وخطط مصر القديمة وامتدادات المدينة، لذا حينما جاء القرن الـ19 كانت مصر تتمدد غربًا إلى نهر النيل ثم شرقًا إلى صحراء العباسية، ثم ظلت فى عيون المصريين هى مدينة مصر الكبيرة التى تناديهم ليفتخروا بها، وفى نظر الغربيين هى مدينة القاهرة، مدينة ألف ليلة وليلة التى لها سحرها الخاص.
