صورة منذ طفولتى لم تغادر مخيلتى. درست بين ما درست بعض مناهج قراءة المستقبل، وتابعت مع زملاء وأصدقاء جانبًا من الدراسات النظرية والواقعية حول هذا الموضوع ومع ذلك بقيت الصورة لا تغادر. صورة ابتكرها علماء أقدمون عن عالم محشور بين قرنى ثور ضخم. ثور تخيلته دائمًا غاضبًا. دائمًا يركض وفى اتجاهات متناقضة. يفاجئنا بالتوقف للحظة ثم يثور واللهب الكثيف صادر من أنفه وأذنيه، حتى خيل لى أكثر من مرة أن يومًا سيأتى يشتعل الثور بالغضب أو باليأس إلى درجة تجعله يلقى بما يحمل بين قرنيه فى بحر أو وادٍ عميق.
مرات أخرى، وربما فى غالب الأوقات، تغلبت براءة الأطفال حتى صرنا نعتقد أن الثور طيب القلب، لن يلقى بما يحمل إلى التهلكة فوظيفته أن يحمل العالم، ولا يريد أن يفقد هذه الوظيفة، يغضب لأعمال الشر التى كثيرًا ما يقترفها سكان هذا العالم فينفث نار الغضب من داخله قبل أن يهزهم هزًا عنيفًا، ليعودوا بعده إلى صوابهم.
• • •
رغم تقدمى فى السن وما قرأت ودرست وتعلمت لم أستطع أن أزيح صورة العالم بين قرنى ثور من رأسى وأنا أرى من حولى بشرًا يمارسون الشر فى ألعن حالاته وبشرًا مهددين بالفناء، أرى عمالقة فى القوة والهيمنة مرتعبين، أرى بشرًا جبارين خرجوا من صفحات كتب صفراء ومهمتهم إبادة بشر آخرين تصادف وجودهم على طرق زحفهم اللعين. أرى بشرًا، رغم كل الخطر المحيط بهم، عازمين على الخروج بسلام وبغير الحرب من خطر شر زاحف.
الآن أعود إلى الواقع وتفاصيله وبخاصة بعد أن رأيت بنفسى الخوف يطل بقسوة من وجوه أعرفها، رأيته على وجوه رؤساء دول ومسئولين كبار فى الخارج. أما مصادره فغير قليلة. أذكر هنا القليل منها:
أولًا: الأسلوب الذى جاء به الرئيس دونالد ترامب إلى ولايته الثانية من سنوات الندم والاستعداد ونية الانتقام. منذ اليوم الأول من الولاية الثانية فى البيت الأبيض انتهج الرئيس أسلوب المزج بين التهديد والابتزاز فى لقاءاته مع ضيوفه وبخاصة رؤساء الدول. أراد، بدون حرب، أن يضع كل رئيس دولة يقابله فى موقع «دونى» بالنسبة لشخصه وبالنسبة أيضا للولايات المتحدة مستخدمًا السخرية والتجاوز والتجاهل والشروط المجحفة لاستمرار العلاقة الشخصية أو بين دولتين. إمعانًا فى السخرية جعل اللقاءات مفتوحة للصحفيين وكاميرات التصوير. أعرف أن هذا الأسلوب المستجد فى دبلوماسية البيت الأبيض قد حقق بالفعل النتائج المتوقعة منه وأهمها بث الخوف. رأيناها مستخدمة فى لقاءات الرئيس بالقمة الأوروبية مجتمعة أو متفرقة ورأيناها فى واحدة من أبشع صورها فى قمة جمعت الرئيس الأمريكى مع زعماء إفريقيين. أعترف بأن العرب، عن قصد ربما رفضوا أو تهربوا من عقد قمة عربية موسعة يدعى إليها الرئيس الأمريكى.
ثانيا: أنا، ومثل غيرى كثيرون ممن هم فى عمرى، شاهد على الاغتيال السياسى كأداة من أدوات الصراع السياسى الداخلى. أما وقد صار أهم أداة فى الصراع الدولى، ولعله بكثافة استخدامه صار يفسر الغموض والخوف الشائعين فى تصرفات معظم حكومات العالم وفى سلوكيات الدول المشتركة فى صراع إقليمى أو دولى. يفسر أيضا إقبال دول عديدة على إدخال تعديلات قسرية وعاجلة على آليات أمن السلطة الحاكمة وبخاصة أمن أشخاصها. مثال على ذلك خطط السفر وبرامج اللقاءات والمؤتمرات الدولية. لاحظ معى إصرار المسئولين السياسيين فى حكومة نتنياهو على تذكير الدول العربية كل يوم بإمكانات إسرائيل الهائلة فى مجالات استخدام الاغتيال السياسى.
ثالثا: استنتجت من كتابات معلقين وخبراء غربيين، وبخاصة الأمريكيون منهم، أن بعض سلوكيات الرئيس الأمريكى وسياساته فى الآونة الأخيرة صارت تكشف عن قلق شديد يدفعه للتطرف فى مواقفه خشية اتهامه بالضعف، الذى هو حقيقة يصعب تجاهلها وإن راح ينكرها بسياسات وقرارات أشد تطرفا.
الفشل يلاحقه، وهو أمر آخر لا شك فيه. جدير بالذكر الاعتقاد السائد فى واشنطن كما فى غيرها بأن جائزة نوبل للسلام التى يسعى لها ويطلبها الرئيس الأمريكى من زواره عادت تبتعد حتى صارت أملا بعيد المنال وموضوع تندر ينشغل به أمراء برامج الفكاهة والسخرية فى "الميديا" الغربية. وفى الوقت نفسه صار هذا الضعف خطرا يهدد مكانة أمريكا ويؤثر مباشرة على توجهات السياسة الخارجية.
رابعا: انكشف أمام الرأى العام الأمريكى والدولى الدور الخطير والهام جدا الذى تلعبه المصالح الشخصية فى صنع السياسة فى أمريكا وانعكاساتها على الخارج. وبالذات الدور المتنامى لعالم رجال الأعمال وجماعات التكنولوجيا المتقدمة، وبوجه خاص جماعة كبار المطورين وسماسرة العقارات وجماعة الصهيونية العالمية ممثلة فى أيباك وغيرها.
هنا يجدر بى التوقف أطول قليلًا لأهمية ما يطرأ يوميًا من مظاهر خوف خطيرة تكشف بدورها عن أحداث عالمية لا تقل خطورة. ففى مؤتمر عقده الناشط و«المؤثر» الجمهورى اليمينى الشاب تشارلى كيرك اجتمعت الألوف المناصرة له وللرئيس ترامب المدين له ببعض الفضل فى فوزه فى انتخابات الرئاسة، قيل إن شابًا مجهول التوجه والعقيدة، شاب بسيط بماض أبسط، ولكن ببندقية غير بسيطة، أطلق النار على الناشط والقائد لهذا التيار المتزايدة شعبيته. المثير أنه فى هذه اللحظة أو فى أعقابها نشبت فى الولايات المتحدة انتفاضة إعلامية لعلها الأولى فى تاريخ الدولة.
بعد يوم أو يومين لم توجد قناة تليفزيونية إلا وصار هذا الحادث شغلها الشاغل. لماذا قتل تشارلى ومن القاتل الحقيقى. السؤال نفسه الذى سئل فى أعقاب مناسبات عديدة متشابهة وتكتموا عليه وعن الإجابات عليه. هذه المرة جاءت بسرعة الإجابة عن سؤال من القاتل وما الجهة المدبرة والمنفذة لجريمة قتل ريتشارد كيرك، جاءت هادرة ومتدفقة ومثيرة للفضول الإعلامى المكتوم لسنوات عديدة، جاءت ومعها تفاصيل جديدة عن حادثين تاريخيين سبق أن أثارا حملات من الأسئلة المباشرة والإجابات الزائفة والمحيرة، وهما حادثة قتل الرئيس جون فيتزجيرالد كينيدى وحادثة تفجير برجى مانهاتان وقد راح ضحيته ثلاثة آلاف شخص واتهم فيه عناصر إسلامية متطرفة حتى صار نموذجا يمهد لحرب عالمية أو حروب بالوكالة ناشبة وبخاصة فى الشرق الأوسط ضد ما يسمى بالإرهاب.
لماذا قتل ريتشارد كيرك؟ الشاب المؤيد لمواقف ترامب اليمينية والمؤيد سابقا لإسرائيل على أسس مسيحية، الشاب المرشح من الآن ليقود أمريكا فى المستقبل وليكمل مشوار التطرف اليمينى للرئيس ترامب. جاءت الإجابة المدوية بأصوات العديد من الإعلاميين الأكثر شعبية فى صفوف الإعلام الأمريكى، «قُتل لأنه، وهو الداعم للتحالف الأمريكى الإسرائيلى، أبدى فى الآونة الأخيرة تحفظات قوية على سياسات إسرائيل فى فلسطين واعتراضات على المدى العميق الذى وصل إليه النفوذ السياسى الصهيونى فى الدولة الأمريكية حتى صار يهدد الديمقراطية والقيم المثلى فى أمريكا». لم يتأخر هؤلاء الإعلاميون فى الرد على بقية السؤال، وهو عن القاتل الحقيقى.
خامسًا: جاء الرد وكأنه الزلزال المنتظر من البعض والمتوقع من البعض الآخر. جاء الرد فى شكل اتهام صريح وخطير، القاتل هو الأجهزة الخفية فى الصهيونية العالمية بمعاونة عملاء فى أكبر جهازين للاستخبارات فى العالم، البريطانية والأمريكية وفى جهاز الموساد الإسرائيلى.
الهاجس على مر السنين صار اتهامًا علنيًا يضرب فى عمق حرب عالمية شنتها الصهيونية العالمية مع عملاء لاغتيال أشخاص وأمراء وزعماء وقادة فى عديد الدول على امتداد عقود تحت زعم الحرب العالمية ضد الإرهاب.
سادسًا: ما نزال نركض وراء تكهنات وتسريبات واجتهادات إعلاميين كبار فى قدراتهم وعمق تحليلاتهم وغنى مصادر معلوماتهم. بعضهم يهودى العقيدة ومتبحر فى فنون الضغط الصهيونى الممارس يوميًا على حياة ونشاط الإعلاميين الأمريكيين.
لم يعد خافيًا أن قتل الشاب الأمريكى تشارلى كيرك سوف يزيد من حجم الخوف المنتشر فى مختلف دوائر القرار السياسى. يتردد وبكثرة على ألسنة المنتفضين وكتاباتهم أن أمريكا اليوم أمام نوع من الخوف غريب ومخيف، وبخاصة خوف الكبار، سياسيين كانوا أم إعلاميين ومثقفين. يتردد أن تشارلى لم يخف على مستمعيه فى أيامه الأخيرة غضبه وهو يرى الصهيونية الأمريكية تتلاعب بأولويات أمريكا وتضع مصالح إسرائيل قبل مصالح أمريكا. كلام خطير عن شاب قاد مع ترامب حملته الانتخابية وتعده آلة الحزب الجمهورى لترشيحه فى الانتخابات الرئاسية القادمة خلفًا لترامب.
سابعًا: يتردد الآن، وأسمعها أكثر وأكثر من أصدقاء فى مواقع نفوذ، يتردد أن الرئيس ترامب نفسه يخضع هذه الأيام لحملة ضغوط بالغة الخطورة ولأعمال ابتزاز تتصل بمصالح عائلته المالية وفى مجال العقارات وفى ماضى وحاضر علاقاته الحميمة. يبالغ زميل آخر بالزعم أن نتنياهو نفسه، ورغم تأصل الشر فيه، لم يعد يملك حق أو حرية التراجع فى أى من سياساته.
• • •
فى كل الأحوال، وبخاصة حال كل من أمريكا القطب الأعظم والمهيمن وحال إسرائيل الطرف الأقوى عسكريًا وإرهابيًا فى معادلة الشرق الأوسط وحال العلاقة بينهما، غير خاف نوع المستقبل القريب للأوضاع الدولية والإقليمية.