صحيفة الشرق الأوسط - لندن: اللقطات الإباحية - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:33 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صحيفة الشرق الأوسط - لندن: اللقطات الإباحية

نشر فى : الثلاثاء 3 مايو 2022 - 7:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 3 مايو 2022 - 7:55 م

نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا بتاريخ 2 مايو للكاتب غسان شربل، يقول فيه إن تغطية أى صحفى من منطقة الشرق الأوسط لأحداث وقضايا الغرب ستدخل تعديلا جذريا فى قاموسه المهنى. مقارنا بين ما يرتكبه قادة الغرب من جرائم وعدم التهاون فى محاسبتهم وبين ما يفعله بعض قادة الشرق الأوسط فى شعوبهم.. نعرض من المقال ما يلى.
ارتكب النائب البريطانى نيل باريش جريمة مروعة. لا تذهب عزيزى القارئ بعيدا فى الخيال. نحن لسنا فى الشرق الأوسط الرهيب. لم يأمر بقصف حى مقابل بالمدفعية الثقيلة. لم يزرع عبوة ناسفة فى مقر الحزب المنافس. لم ينهب المالَ العام، ولم يحتقر مواطنيه. لم يتآمر مع الخارج ضد بلادِه. المسألة مختلفة تماما وأقل هولا، ومع ذلك احتلَّت الصفحاتِ الأولى وسرقت العناوين.
والقصة باختصار هى أنَّ وزيرة لاحظت أنَّ زميلَها فى مجلس العموم يسترقُ النظرَ فى هاتفه إلى لقطات إباحية. كانَ باستطاعتها أن تبتسمَ وتنسى، وأن تسجّلَ ذلك فى باب المراهقات الممجوجة. لم تفعل؛ خصوصا أنَّ القواعدَ تقضى بألا ينشغل عضوٌ تحتَ قبة البرلمان بهذا النوع من المشاهد. ولأنَّ وسائل التواصل الاجتماعى محكمة تبتهج بقراراتِ الإعدام السياسى والمعنوى، وقعَ السيد النائب فى كارثة. سارعَ حزب المحافظين إلى إسقاطِ عضوية النائب المتفرج فى الحزب. وانهمكتْ سكاكينُ الإعلامِ فى تشريحِ الضحية. لم يبقَ أمامَه غيرُ حلٍ وحيد لإسكات العاصفة، ولم يتردد فى اعتماده. لقد استقال. ووصفَ دخولَه ثانية إلى موقع اللقطات الإباحية بأنَّه كانَ «لحظة جنون». قال باريش إنَّه شاهدَ اللقطات بالمصادفة فى المرة الأولى «لكنَّ جريمتى، أكبرُ جريمة، أنّنى دخلت مرة ثانية وكانَ الدخول متعمدا. كنتُ وقتَها أجلسُ فى انتظار الاقتراع فى جانب القاعة».
• • •
الإقامة فى الغرب تُفسدُ الصحفى؛ خصوصا إذا كان وافدا من الشرق الأوسط. تُدخل تعديلا جذريا على قاموسه وأسلوب قراءته للعالم والأحداث. قبل أيام كانَ جارى البريطانى متشائما. توهمتُ بأنَّه واقعٌ تحت تأثير «اللقطات الإباحية» التى تبثها الشاشاتُ عن مجريات الحرب فى أوكرانيا، وأعداد الضحايا والمنازل المحترقة وأمواج اللاجئين. وقلتُ إنَّه قد يكون مدركا لأخطر ما فى هذه الحرب، وهو شطب الحدود الدولية لدولة مستقلة، والحديث عن تعديلات فى خريطتها تتضمَّن قطعَ بعض أطرافها أو أكثر. وبديهى أنْ يقلقَ الأوروبيون من شطب الحدود؛ لأنه يذكرهم بويلات الحرب العالمية الثانية؛ حين داست الدبابات القانونَ الدولى وانتهكت كلَّ القواعد. وإذا كانت أوروبا مرَّت بعقود من الاستقرار والازدهار بعد تلك الحرب المدمرة، فإنَّ السبب الأولَ كانَ الاتفاق على عدم جواز المسّ بالحدود الدولية المعترفِ بها.
أخطأتُ التقديرَ. كانَ متشائما لأسباب أخرى. قال إنه يتألَّم لأنَّ بلادَه باتت تعانى نقصا فى السياسيين الذين يمكن أن يستحقُّوا لقبَ رجال دولة. أنْ يقولَ بريطانى مثلَ هذا الكلام أمام لبنانى فالأمرُ فظيع. ظننت أنَّ الرجل عثر على جريمة من العيار الثقيل شبيهة بتلك التى ترصّع اليوميات فى بلداننا. وحين روَى معاناتَه كتمتُ ضحكة راحت تراودنى وأنا أفكّرُ فى المسافة بين قاموسين وعالمين.
قال الرجل البريطانى إنَّ من الصعب عليه أنْ يعيشَ فى ظلّ حكومة يترأسها رجل يضع نفسَه فوق القانون، ويجرؤ على تضليل مجلس العموم. وكان يشير إلى المناسبات التى أقيمت فى 10 داونينج ستريت، حين كانت بريطانيا تعيش فى ظلّ إجراءات إغلاق صارمة لمنع انتشار وباء «كورونا». وكان بين «اللقطات الإباحية» التى أثارت الرأى العام مناسبة أقيمت فى ذروة الإغلاق، بمناسبة عيد ميلاد رئيس الوزراء بوريس جونسون الذى شربَ كأسا فى المناسبة.
لم يرحم الوباءُ بوريس جونسون. تسلَّلَ إليه وطرحَه فى المستشفى، وخافَ المواطنون على مصيره. لكن ذلك لم يمنحه أسبابا تخفيفية حين راحت تتسرَّب أخبار المناسبات. نفَى جونسون فى البداية، وقال إنها كانت مناسبات عمل. ثم اعترف بالخطأ واعتذر؛ لكنه رفض الاعتراف بخرق قوانين الإغلاق. فتح سلك الخدمة المدنية تحقيقا يُنتظر أن يُنشر كاملا، وقد يكون تأثيرُه عاصفا؛ خصوصا إذا كانت نتيجة حزب المحافظين مخيبة فى الانتخابات المحلية المقررة بعد أيام. فى غضون ذلك فتحت الشرطة تحقيقا وفرضت غرامات على جونسون وزوجته كارى وجاره وزير الخزانة ريشى سوناك. الاتهام الأخطر الموجَّهُ إلى جونسون هو تضليلُ مجلسِ العموم ومعه الرأى العام. ويقول كثيرون إنَّ بريطانيا لا تستطيع قبولَ رئيسٍ للوزراء يضلّل البرلمان.
• • •
يكاد الوافدُ من الشرق الأوسط لا يصدّقُ ما يقرأ وما يسمع. لم يأمرْ جونسون قواتِه بإمطار مدينة بالصواريخ أو القذائف المدفعية. لم يتهمه خصومُه بتغطية مقبرة جماعية أو مساعدة مرتكب على الإفلات من العدالة ودخول البرلمان للتمتع بالحصانة النيابية. شربَ كأسا وراءَ الجدران فى عيد ميلاده وفى حضور حفنة من أصدقائه. لكنَّ البريطانيين يعتبرون أنَّ من يفرّط فى شبرٍ يفرّط فى خريطة، ومن يفرّط فى سنبلة يفرط فى حقل. يعتبرون أنَّ وضع رئيس الوزراء نفسه فوق القانون خطر على القواعد والقيم التى يرتكز إليها النظامُ الديمقراطى، وأهمها التساوى أمام القانون. لم يُتَّهم جونسون بالقتل. اتُّهم بالتضليل. لقد تمَّ التعاملُ مع المناسبات التى قد تكون خرقت إجراءات الإغلاق وكأنَّها لقطات إباحية لا بدَّ لمن شهدها من أن يدفع الثمن.
مسكين بوريس جونسون. لم يتسبب فى إطلاق أمواجٍ من المهاجرين. لم يتستَّرْ على مقتل مرفأ ومدينة وبلاد. لم يتستَّرْ على سرقة أموال المودعين. لم يحتقر مؤسساتِ الدولة ويبدّد شملَها. ولم يدفع بسياساتِه مواطنيه إلى القفز إلى زوارق الموت. لم يُغرقْ بلادَه فى الجوع والفقر، ولم يتسبب فى إذلال مواطنين إلى حد التنقيب فى أكوام النفايات لرد الجوع. لم يزعم أنَّه معارض على رغم الإقامة فى القصر. الأمر نفسُه بالنسبة إلى مهندس العتمة الشاملة ومروج الظلام الدامس. لم يتسبب جونسون فى جعلِ الكبتاغون فخرَ الصناعة الوطنية، ولم يساهم فى دفع بلادِه إلى العزلة. ألا يمكن إدخالُ كل هذه الجرائم فى باب «اللقطات الإباحية» التى تستحقُّ اعتذارا أو استقالة أو محاسبة؟ متى يعيشُ الناسُ فى ظلّ مؤسساتٍ حقيقية، وفى ظل حكم القانون والشفافية والمحاسبة؟ متى ينتهى عهد الحكومات الفاشلة والفاسدة التى يشكّلُ وجودُها أبشعَ «اللقطات الإباحية»؟

التعليقات