ليس غريبا أن يتعمد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو الحديث عن «مهمته التاريخية والروحية» ويبدى «ارتباطه الوثيق» بفكرة «إسرائيل الكبرى» تزامنا مع إعادة فتح مسارات التفاوض بحثا عن وقف ضم قطاع غزة ومنع اجتياح مدينة غزة.
وليس غريبا أن يُعيد النفخ فى كير التصعيد مع إيران ويحرض مواطنيها على الثورة قبل أسابيع معدودة من انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة التى قد تشهد موجة اعترافات دبلوماسية واسعة بدولة فلسطين كورقة أخيرة لمحاولة وقف الإبادة، فهو مؤمن باستراتيجية تفجير المشهد من أكثر المواقف حساسية، ليخرج من أضيق الأركان إلى أفق جديد لاشتباك أعنف.
تذكّر معى كيف كان يعتلى منبر الأمم المتحدة العام الماضى وطيرانه ينفذ عملية اغتيال حسن نصر الله.
لكن الغريب بحق، فشل العقول فى إدراك تهديدات تلمسها كل الجوارح يوميا على مدى تسعين عاما، وتبقى عاجزة عن التعامل مع كارثة الحاضر وظلمة المستقبل.
فى نوفمبر 1945 نجد الأديب الرائد إبراهيم عبدالقادر المازنى ينقل لقراء «الرسالة» الأحلام التى تراود نتنياهو اليوم، والتى شكلت أساس «الصهيونية التصحيحية» على يد مؤسس الليكود وقدوة نتنياهو، زئيف جابوتنسكى.
فكتب تحت عنوان «فى أيدى العرب سلاحٌ ماضٍ»: «الصهيونيون لا يسكنون ولا يكفون عن السعى، لأن لهم غاية أبعد من مجرد الوطن القومى الذى فازوا به (لاحظ نشر هذه العبارات قبل نكبة 1948 بعامين ونصف) وهى أن يستولوا على فلسطين كاملة، ويخرجوا العرب منها، ويقيموا لأنفسهم فيها دولة. وحتى هذه ليست إلا خطوة ثانية فى سبيل غرض أكبر وأعظم، فقد صرح مندوبوهم فى المؤتمر الصهيونى الذى عقدوه منذ بضعة شهور فى لندن، بأن الشرق الأوسط كله مجال حيوى لهم، كما كان يقول هتلر عن الرايخ الثالث فى شرق وجنوب أوروبا».
تمر هذه الأيام ذكرى ميلاد ووفاة المازنى (19-8-1889 : 10-8-1949) الذى توارى إسهامه فى الفكر السياسى ضد الصهيونية والتوعية المبكرة بحيوية القضية الفلسطينية، خلف الرواية والشعر والمعارك الأدبية مع مجايليه.

لأكثر من عشر سنوات؛ كرس المازنى عددا معتبرا من مقالاته فى مجلة «الرسالة» للتبصرة بقضايا القومية العربية، والتنظير لفكرة الجامعة العربية والدعوة لإنشائها، ومناهضة الخطاب البريطانى بشأن فلسطين، ومساندة ثورتها العربية الكبرى (1936-1939) والتحذير من مخططات اللوبى الصهيونى. وهو إرث يستحق الإضاءة والتدبّر.
فى أعقاب انتصار الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية تصاعد النشاط الاستيطانى فى فلسطين بجذب المزيد من السكان وإقامة «كيبوتسات» أو مستعمرات إنتاجية تشمل مصانع ومحطات للإنتاج الحيوانى وغيرها من المشروعات المدعومة بتكنولوجيا جديدة على الشرق تمكنت من إغراق بعض الأسواق العربية بالبضائع، فنجد المازنى يطرق مسار الحصار الاقتصادى للكيان المزمع إنشاؤه، وهو السلاح الذى يبدو اليوم الوحيد والأكثر نجاعة كى توجّه محكمة العدل الدولية لاستخدامه ضد المستوطنات، وتستخدمه دولٌ مناهضة للإبادة مثل النرويج عبر صندوقها السيادى الذى قرر مؤخرا تقليص استثماراته فى إسرائيل.
كتب تحت عنوان «مقاطعة الصهيونية» فى 31 ديسمبر 1945 أن المقاطعة هى «أمضى سلاح فى مكافحة الصهيونية» فلا فلاح لدولة يسبق قيامها الخراب الاقتصادى، ومؤداها أن تبور الصناعات التى أقاموها بتكاليف باهظة، داعيا إلى خطة عربية تكاملية لتنظيم أمر المقاطعة والتعاون فى سد النقص وتعويض الخسائر التى قد تتكبدها المجتمعات فى البداية، وتنويع موارد البضائع.
وبينما كان ساسة مصريون يروجون للانكفاء ويرفضون الارتباط بالقضية الفلسطينية، خلت رؤية المازنى من التشويش أو الشطط واتسمت بطول النظر، حين كتب فى أغسطس 1937 تحت عنوان «نكبة فلسطين»: «لكن الغفلة تزول، وسيجىء يوم قريب تدرك فيه مصرُ أنها لا تستطيع أن تغضّ الطرف عما يجرى على حدودها، أو تستخف بالأثر الذى يكون لإنشاء دولة يهودية على الساحل الشرقى القريب من ساحلها، وسترغمها الحوادث على أن تدرك أن القربى بينها وبين فلسطين أجدى عليها وأربح من هذه العزلة التى يحملها على الإخلاد لها الجهلُ وقلةُ الفطنة وضيق أفق النظر. وكل آت قريب، ولكن الشىء فى أوانه خيرٌ منه بعد الدرس القاسى والامتحان الأليم والتجربة المرة».
بعد شهور من قيام إسرائيل مات المازنى، كغيره ممن تركوا كلماتهم ليقيموا علينا الحجة، وتثور دهشة الاستنكار فى سؤال كل طفل عربى لأبيه وأجداده: أين كنتم؟!