القديمية والجديدية.. الإسلام في روسيا القرن 19 - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الخميس 5 يونيو 2025 11:25 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

القديمية والجديدية.. الإسلام في روسيا القرن 19

نشر فى : الثلاثاء 3 يونيو 2025 - 8:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 3 يونيو 2025 - 8:39 م

هذه حلقة جديدة من رحلتنا مع تطور الفكر الإسلامى فى روسيا خلال القرون الماضية. نسير فيها اليوم أيضا مع كتاب د. رفيق محمد شين «الإسلام فى تترستان» والذى ساهمتُ فى نقله من الروسية إلى العربية. ونتناول اليوم مسألة على درجة عالية من الأهمية وهى ثنائية التراث والتجديد فى الفكر الإسلامى الروسى.


لقد دخلت المدرسة الدينية فى خضم الصراع الأيديولوجى فى روسيا نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وحاولت الدولة وضع النظام التعليمى للشعوب المسلمة تحت سيطرة وزارة التعليم، وهو النظام الذى انتشر بشكل تقليدى فى المجتمعات الإسلامية. وكان هناك دوافع دينية أيضا وراء منع ممثلى البرجوازية التترية من القيام بأعمال تجارية، وتملك العقارات فى مناطق آسيا الوسطى، وكذلك فرض قيود على تدريس المسلمين فى المدارس الحكومية وشغل الوظائف فى الإدارة المحلية.

الجديدية

وفيما يتعلق بالعمليات التى حدثت داخل الأمة الإسلامية، تجدر الإشارة إلى أن القرن الثامن عشر تحديدا شهد تحول المجتمع الإسلامى فى روسيا إلى طريق التنمية الحديثة، ويعتبر عبد الناصر قرصاوى وقيوم ناصرى وإسماعيل بك جسبرينسكى وشهاب الدين مرجانى هم رواد هذه الحركة الجديدة بين المسلمين الروس (تعرف محليا باسم الحركة «الجديدية»).
لكن الأفكار المبتكرة للمفكرين التتر فيما يتعلق بعلوم الدين لم تستطع وحدها أن يكون لها تأثير ملموس على الوعى الجمعى، ذلك لأن هذه الأفكار فى الحقيقة ــ فى القرن التاسع عشر ــ لم تكن معروفة سوى لعدد قليل من علماء الدين والمثقفين، ولم تستطع أن تدخل فى الوعى الجمعى وذلك بسبب غياب المؤسسات الدينية اللازمة.
بقيت المدارس الدينية عاجزة عن تلبية تلك الدعوة الإصلاحية إذ كانت مقرراتها الدراسية فى حالة جمود. غير أنه مع ظهور المدارس «الجديدية» وظهور أول الدوريات التنويرية ممثلة فى مجلة الترجمان لإسماعيل جسبرينسكى (فى عام 1883) تجلت بوادر لإدخال أفكار دينية وإصلاحية فى الوعى الجمعى.
كانت الجديدية واحدة من الاتجاهات الرئيسية للفكر الإصلاحى الإسلامى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أدرك فيها المجتمع الإسلامى الروسى أنه فى حاجة إلى توجهات قيمية جديدة، وكانت المدرسة الإسلامية القديمة (القديمية) تُعنى بإعطاء معارف مصدرها فقط القيم الدينية والأخلاقية، التى اعتبرها الناس أبدية وكافية بذاتها.
حدثت تغييرات جذرية فى نظام التعليم، واستمرت شبكة المؤسسات التعليمية الإسلامية فى التوسع، ففى منطقة قازان التعليمية عام 1894 كان هناك 1474 كُتابًا ومدرسة دينية، وبحلول عام 1911 بلغ عددهم 1822. انتشرت بصورة واسعة المدارس الجديدية فى هذه الفترة، التى نشأت تحت تأثير أفكار إسماعيل جسبرينسكى وشهاب الدين مرجانى، وكان الهدف إدخال عناصر المقررات العلمية الحديثة فى التعليم الدينى.
وقد تسبب هذا النهج فى جدال حاد بين المثقفين المسلمين، حيث دار الحديث حول استخدام مفهومين ثقافيين للمعرفة. شن أنصار الطريقة التقليدية (القديميون) هجوما على المدارس الجديدية معتبرين أنها تشكل تهديدا للثقافة الإسلامية والنظرة للعالم.

قاعة الدرس في مدرسة إسلامية في تترستان


القومية والدين

اهتم الإصلاحيون فى الفكر الإسلامى، وخاصة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، بالقضايا القومية بشكل أكبر، ولا سيما مفكرون كبار مثل:
• «قيوم ناصرى» الذى تناول مشاكل الإبداع واللغة الأدبية والإثنوجرافيا الشعبية؛
• «شهاب الدين مرجانى» الذى قدم تصورا علميا لأصول الشعب التترى فى حوض الفولجا.

وساهم ذلك فى تشكيل أيديولوجية لحركة التحرر الوطنى المميز لهذه الفترة من خلال التوجه إلى الثقافة القومية وإحياء الاهتمام باللغة الوطنية، وكذلك بإحياء الأمجاد السابقة للشعب و«عصره الذهبى»، وتعزيز شعور الوطنية وتشكيل الوعى القومى. وكانت هذه الأمور بمثابة العامل الرئيسى لتكوين الأمة.

النشر الثقافى

ما زلنا بين صفحات كتاب «الإسلام فى تترستان» الذى ألفه رئيس الجامعة الإسلامية فى قازان رفيق محمد شين ونقله إلى العربية وائل فهيم وعاطف معتمد. ونقرأ فيه المراحل التى تطورت خلالها الثقافة والتعليم لمسلمى روسيا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
كان لطباعة الكتب نصيب خاص من حركة التجديد، إذ تضاعفت حصة كتب التاريخ والفلسفة والفن الشعبى، وطبع الأدب التربوى والفنى. وقد بلغ العدد الكلى للكتب المطبوعة فى المدن الروسية بلغات الشعوب الإسلامية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر 27 مليون نسخة لأكثر من ثلاثة آلاف كتاب.
وخلال الفترة من عام 1901 وحتى عام 1917 صدر حوالى 47 مليون نسخة لما لا يقل عن 6200 كتاب. وبحلول عام 1913 جاءت الشعوب الإسلامية فى المركز الثانى فى الإمبراطورية الروسية من حيث عدد نسخ الكتب الوطنية المنشورة.
لقد زادت فى المدارس الدينية المواد العلمية، حيث تم إضافة علوم دنيوية للمواد الدينية التقليدية، بما فى ذلك اللغة الروسية. وانتعشت بعض المدارس الدينية الجديدية (مثل «المحمدية» و«القاسمية» فى قازان، و«الحسينية» فى أورينبورج، و«جاليا» فى أوفا، و«بوبى» فى محافظة فياتكا). وجمعت هذه المدارس بين المناهج الحديثة وحرصها فى ذات الوقت على ألا تتهاون فى النهج الدينى الذى يعلم الطلاب الأسس الإسلامى الصحيحة، وإن كانت تختلف عن المدارس القديمية فى تفضيل اللاتينية واليونانية على العربية والفارسية.
الصحافة الإسلامية والثورة الروسية
أعطت الثورة الروسية الأولى دفعة قوية لتطوير وسائل الإعلام الإسلامية. وكان صدور جريدة «نور» فى بطرسبرج و«جريدة قازان» فى قازان فى عام 1905 مرحلة جديدة فى تطور الثقافة الروحية للشعوب الإسلامية، حيث حصلوا على إمكانية الوصول لمصادر المعلومات، التى طال انتظارها. وحتى عام 1917 أسس المسلمون وطبعوا نحو 100 صحيفة ومجلة، كان أشهرها صحف «الإصلاح» و«بيان الحق»، و«النجمة» و«جريدة قازان»، ومجلات «الدين والأدب» و«المعلومات» (فى قازان)، وجريدة «الزمن» ومجلات «الدين والحياة» و«الشورى» (فى أورينبورج)، وصحف «التقدم» و«الفولجا» ومجلة «الإصلاح» (فى أستراخان)، ومجلة «الاقتصاد» (فى سمارا)، وصحف «البلد» و«نور» (فى بطرسبرج).
بعد ثورة 1905-1907 حاول المسلمون الروس التوحد فكريا وسياسيا، وسعوا لوضع رؤيتهم لآفاق تنمية روسيا، ولتقديم مشاريعهم السياسية للحكومة.

مشروع استقلال ذاتى قبل الثورة الشيوعية

فى مطلع القرن العشرين، وجدت الحكومة القيصرية نفسها - مع تفاقم الوضع الثورى ضد النظام القيصرى - مضطرة إلى القيام بقدر من تخفيف الضغوط على السياسة الداخلية، وأعلن بيان 17 أكتوبر 1905 الحريات المدنية الأساسية، بما فى ذلك حرية الاعتقاد (حرية الضمير).
فى 1905 عُقد المؤتمر الأول لمسلمى روسيا على نهر الفولجا بالقرب من مدينة نيجنى نوفجورود وترأسه إسماعيل جسبرينسكى، الذى لقى دعم المؤتمر الكامل لأفكاره الساعية إلى توحيد المسلمين الأتراك الروس فى منظمة واحدة للدفاع عن مصالحهم، وتقرر إنشاء حزب «اتحاد المسلمين»، الذى كان عليه النضال بجميع الوسائل القانونية من أجل إلغاء «كل القيود المفروضة على المسلمين حسب اللوائح الحكومية المعمول بها والممارسات الإدارية، والمساواة التامة للمسلمين فى كافة الحقوق: السياسية والمدنية والدينية».
وفى عام 1906 أقر حزب «اتحاد المسلمين» ميثاقه لكنه لم يتمكن من إتمام التسجيل قبل انتخابات مجلس الدوما الأول، ولذلك اتخذ قرارًا بالمشاركة فى الانتخابات على قائمة الحزب الدستورى الديمقراطي، وتم انتخاب 36 ممثلا للمسلمين.
وفى مجلس الدوما الثانى، الذى بدأ عمله فى 20 فبراير 1907 مثّل المسلمين 34 نائبا. تم انتخاب مجلس الدوما الثالث وفق قواعد مشددة للغاية، سيما حرمان الكازاخ وسكان تركستان من حق التصويت، ولذلك كان هناك 10 نواب فقط ممثلين للمسلمين فى مجلس الدوما.
فى عام 1917 بلغ النشاط السياسى للمسلمين الروس ذروته، ففى هذا العام تحديدا عُقدت العديد من المؤتمرات لرجال الدين المسلمين والمعلمين والعسكريين. وقد مهّد نهج الحركات الاجتماعية الإسلامية تجاه المشكلات السياسية الداخلية بوضوح للمؤتمر الإسلامى الشامل لعموم روسيا، والذى أقيم فى موسكو عام 1917. وفى هذا المؤتمر أعلن عن «إقليم حكم ذاتى قومى وثقافى للتتر الأتراك داخل روسيا وسيبيريا». وقبل أن يحقق أهدافه المرجوة ويسهم التطور التاريخى فى تعاظم المكتسبات الإسلامية، اندلعت الثورة الشيوعية وتغير مسار ومسير المسلمين فى روسيا منذ عام 1917 وحتى عام 1991 وهو ما يستحق معالجة منفصلة، لعلنا نعرج عليها فى مقالات مقبلة.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات