انتهى الاجتماع وخرجت من المبنى ليستقبلنى السائق بوجه متجهم وخبر مزعج. لقد قرر مع جماعة السائقين أثناء غيابى فى الاجتماع أن إطارا من الإطارات الأربعة التى تقف عليها سيارتنا نام. قرروا أيضا أنه يتعين «تصليح» الإطار قبل الانطلاق فى مشوار العودة إلى المنزل فى ليلة لم نحسب حساب أن تكون باردة. تشارك السائقون، ولكن كل فى دوره، فى إبلاغى بتفاصيل الخبر والقرار وإضافات كريمة عن صعوبة تغيير إطار سيارة فى هذا الليل الدامس. شكرتهم حسب الأصول وتحركنا فى اتجاه حى مجاور كنت أعرفه وأنا طالب فى الجامعة. هناك عند مدخل الشارع توقفنا أمام عدد من الإطارات ووقف منتصبا إلى جانبها شاب مفتول العضلات مكتمل الصحة و«منتفخ الأوداج»، مواصفات رجل لم يخل منها موضوع إنشاء كتبناه لمعلمى اللغة العربية ونحن طلاب فى الابتدائية. لمحته من داخل السيارة مرتديا قميصا بلون وزخرفة العلم الأمريكى فوق بنطلون جينز من نوع أرتديه فى خروجاتى الخاصة أو لأداء مهمات سريعة، وفى يده آلة حادة وطويلة بمقبض خشبى أسود. أدخل السائق رأسه من أقرب النوافذ إلى حيث أجلس ليهمس فى صوت مسموع قائلا إنه لا يثق بالشاب فمظهره لا يوحى بالاطمئنان ومستأذنا فى الاعتذار له والبحث عن عنوان آخر. رفضت اعتمادا على أننا لم نجربه حتى نثق به أو لا نثق.
بينما كنت والسائق نتهامس كان الشاب المعالج يخطو نحونا فى حزم وثبات. فتح «شنطة» السيارة وأنا بداخلها. فتحها دون استئذان أو استفسار. أخرج الإطار المريض ومشى به نحو آلة كشف مخيفة المنظر. استغرق الكشف والعلاج حوالى عشر دقائق. خلال الدقائق العشر انغرست الآلة الحادة التى يحملها بثقة واعتزاز فى عشرة مواقع فى ثنايا الإطار. عقب كل غرسة كان المعالج يسكب على موقع الغرس ماء فيفور الماء دليلا على وجود ثقب يستدعى العلاج. أما العلاج فكان يبدأ بنزع لاصق من شريط كأشرطة الدواء المألوفة ولصقه بجدار الإطار فى موقع الثقب. تكرر الغرس عشر مرات واللصق عشر مرات وفى نهاية العشر دقائق أعلن نهاية العلاج ودفع بالإطار يجرى أمامه سليما معافى نحو شنطة السيارة ليضعه فيها ويعود إلى موقعه أمام ماكينته المخيفة فى انتظار أن نسأله عن مبلغ يتعين علينا دفعه نظير كشفه على الإطار وإصلاحه ما فسد.
كان المبلغ المطلوب أكثر كثيرا مما حمل جيبى. أخرجت للسائق، والمعالج يراقبنا ويستمع، كل أوراق النقد فى حوزتى وطلبت منه محاسبة الشاب والبحث معه بالطرق السلمية عن حل مناسب. وعد بالتصرف والدفع من جيبه إن لزم الأمر. تحركنا وفى الطريق بادر السائق بحديث لا يخلو من شماتة محببة. «حذرتك يا فندم من الوثوق بهذا الرجل»، أجبته مستنكرا «أنا نفسى خرجت فى النهاية واثقا من خداعه وكذبه، ولكن لم يكن من الممكن أن أكون إلى هذه الدرجة متأكدا بدون الدخول فى التجربة». قال السائق «معاليك لو تصرفت معه بنقص فى الثقة به لربما كانت خسائرنا أقل. أنا شخصيا عندما طالبنى بتنفيذ رغبتكم سداد الباقى المتعين علينا دفعه، رفضت متعللا بأن ما معى لا يكفى لتغطية تكاليف مواصلاتى الشخصية إلى حيث أقيم بعد تسليم السيارة إلى حارسها الليلى. هل تصدق حضرتك أن المعالج تنازل راضيا وإن بسخرية عن باقى المبلغ الذى طلبه، تنازل عن مبلغ يعادل أكثر من نصف ما طلب. عرف أننى منذ البداية لم أثق به، عرف أيضا أنكم من نوع يجرب والتجربة فى هذه الحالة تنفعه ولا تنفعنا فهو يعلم أننا لسنا زبائن. نحن بالنسبة له وأمثاله زبائن الفرصة والصدفة معا. وكلاهما لا يتكرران لنفس الأسباب ونفس الأشخاص».
***
أغلب العائلات المصرية تربى بناتها على تبنى عدم الثقة فى التعامل مع الرجال. تنشأ الفتاة وذهنها يعبأ يوميا بالشك فى الرجل. تخرج إلى المجتمع وذهنها كمعمل متخصص فى إنتاج الشك. ليست فقط الأمهات هن من يتحملن المسئولية عن غرس هذه الشكوك فى عقل الفتيات. مسئوليتهن هى الأكبر بالتأكيد ولكن يتشاركن فى جانب منها مع ذكور الأسرة. البنت فى بعض مجتمعاتنا معرضة للتعنيف من الأب وكذلك من أشقائها الذكور إن شوهدت تتحدث مع شاب فى الطريق أو على الهاتف. لست هنا فى موضع تضخيم الآثار الضارة الناجمة عن حملة التشكيك فى الرجل، حملة تصاحب الفتاة المصرية منذ طفولتها وحتى يوم زواجها. أعرف أنها تتسبب فى تعقيد مشكلات العلاقة بين الرجل والمرأة فى العمل كما أنها مسئولة عن تعكير العاطفة ثم عن تخريب بيت الزوجية. كثيرا ما اقترحت على فتيات مقبلات على زواج أو تسعين لإقامة علاقات عاطفية أن يتركن مسألة الثقة أو عدم الثقة فى الطرف الآخر إلى التجربة الواقعية لتقرر إن كان الشريك محل ثقة أو لا. تجربة يدخلها الطرفان بدون نوايا أو أحكام مسبقة. كلنا نعرف أن الشخص المنشغل بموضوع الثقة فى شريكه سواء فى علاقة عمل أو عاطفة، سوف يمارس من السلوك المرتبك والتصرفات غير السوية ما يؤدى غالبا إلى نتائج وخيمة على العلاقة برمتها.
***
غريب حال الصحف فى عالم اليوم. أغرب منها هذه العلاقة الشائكة التى تفصل القارئ عن الصحيفة. عشت عن قرب مرحلتين فى علاقة الصحف بقارئها، عشت مرحلة ازدهارها ومرحلة تدهورها. زرت مقار العديد من الصحف فى الهند والصين وإنجلترا وإيطاليا وشيلى والأرجنتين وكندا وأمريكا ودول عربية وعملت سنوات فى واحدة من أهم المؤسسات الصحفية فى الشرق الأوسط وشاركت فى تأسيس مشروعات صحفية فى مصر والخارج. بمعنى آخر عشت قضية الثقة من ألفها إلى يائها. عشتها فى الثلاثينيات من عمرى تلميذا منتسبا لمدة عام كامل أدرس عن تاريخ الصحافة ونماذج من تخصصات علوم التحرير وكتابة القصة الصحفية وتخطيط الصفحات الرئيسة وقياسات الرأى العام، وتركيز خاص على أخلاقيات المهنة ومشكلات نقص وتعزيز الثقة بين القراء والصحيفة. وقع هذا الانتساب إلى معهد أجنبى للدراسات العليا بتكليف من صحفى قدير عشت عقودا أعتز بصداقة جمعتنا وطموحات وألوان حياة مشتركة أثارت خيالاتنا فوق خبرة وتجارب اكتسبتها اقتناعا بالملاحظة مرات والمناقشة مرات، كله فى ظل ثقة تبادلناها.
أما عن حكايتى مع نقص الثقة المتبادل بين الصحف ومكونات المجتمع على تعددها واتساعه فما زالت لم تنضج لتُحكى. أحكيها عندما يكتمل قرارى أنها نضجت. أحكيها عندما أشعر أن محطاتها وتفاصيلها عندما تجد طريقها للنشر سوف تبقى مجدية لأجيال قادمة لم تشارك ولم تشاهد، ولأجيال عابرة لم تذق فى غالب أحوالها ومعظم أيامها طعم الثقة. عشنا نؤجل قرار الثقة إلى ما بعد انتهاء التجربة حتى اكتشفنا أن التجربة تجدد نفسها دون استئذان منا رغم كوننا طرفا أصيلا فيها. نحيا الآن فى انتظار الإعلان عن نهاية تجربة بعينها لنبدأ كلنا، وأؤكد على كلنا وبيننا صحفيون وقراء، مرحلة ثقة متبادلة.