مِثلية أم شُذوذ ومُساحَقة؟ - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 12:34 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مِثلية أم شُذوذ ومُساحَقة؟

نشر فى : الجمعة 4 فبراير 2022 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 4 فبراير 2022 - 9:20 م

 

فى الأيام القليلة الفائتة، امتلأت الصحف وأجهزة الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعى بكل أشكالها وأنواعها المختلفة فى مصر بالتعليقات والتحليلات عن فيلم «أصحاب ولا أعز»، منها من دافع عنه باعتباره فنا وإبداعا ونقلا لواقع موجود فى كل المجتمعات بجميع جنسياتها، ومنها ــ وهم الأكثرية ــ من هاجمه وانتقده باعتباره فضحا لأسرار الناس، وتعميما للإباحية، واعتداء على تقاليد المجتمعات الشرقية حاضنة الديانات السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلامية، والتى تأمرنا بالستر والتستر على موبقات البشرية من غير الكشف عنها لتمكين المختصين من علاجها!
فى الحقيقة، الفيلم بنسخته العربية مأخوذ عن الفيلم الإيطالى (النسخة الأولى) «غرباء بالكامل» (Perfetti sconosciuti) عُرض فى 2016 على شبكة نيتفليكس العالمية، واستنسخ إلى ثمانى عشرة نسخة بلغات مختلفة، ومن المؤكد أن الجمهور المصرى المشترك فى هذه الشبكة التليفزيونية ــ وهم كُثر ــ قد شاهدوا ــ على الأقل ــ إحدى النسختين الإنجليزية أو الفرنسية، ولكن من الغريب أن أحدا لم يتحدث عنه، لا بالمدح ولا بالذم، لأنهم اعتقدوا أن الفيلم موجه لمجتمعات الثمانى عشرة لغة، وأن هذا واقع لديهم، وبالتالى هو بعيد عنا!
ولكن عندما بُث الفيلم فى نسخته العربية ــ التاسعة عشرة ــ فهموا أن الرسالة وُجِّهت لهم أيضا، وأن المجتمعات العربية ــ مسلمين ومسيحيين ــ قد جاء دورهم لنشر أهم سياسات شبكة نيتفليكس، وهى محاولة نشر قيم العولمة، ومن أهمها إباحة الشذوذ الجنسى، والدفاع عنه باعتباره سلوكا طبيعيا، والتأكيد كذلك على حرية إقامة العلاقات الجنسية بين الشباب بدون زواج، فضلا عن أنها تعمل على تقبل الخيانات الزوجية واعتبارها أمرا طبيعيا وسلوكا إنسانيا لا غرابة فيه، وذلك بهدف تحطيم الثوابت لدى المجتمعات المحافظة، فتحدث لهم صدمات قوية يعبرون عنها بالهجوم والرفض والشجب، وهذا يصبح أكبر دعاية لهذه الأفكار الهدامة، وقد حدث بالفعل، وبهذا تحققت أهداف نيتفليكس! ويكفى أن نعرف أن أحد أعضاء البرلمان المصرى طالب بعقد جلسة خاصة لمناقشة هذا الفيلم وكيفية التصدى له!
• • •
كان هذا هو النجاح الأول لتحقيق أهداف العولمة من خلال النيتفليكس، وأما النجاح الثانى، فهو لغوى ومتعلق بالمصطلح المستحدث: «المِثلية»، هذا المصطلح لم نكن نسمع عنه من قبل، والوصف الحقيقى لهذه الممارسة هو «الشذوذ الجنسى»، ولأن هذا المصطلح الأخير له سمعة سيئة، كما أن له دلالات سلبية ومُهينة للممارسين والممارسات، سواء من الذكور أو الإناث، فقاموا باستحداث كلمة «المثلية» ليطلق على الفعل، وكلمة «المثليون» للممارسين لهذا الفعل، ونجد فى هاتين الكلمتين صورة بديعية تُسمى «التورية» Euphemism، من شأنها تخفيف المعنى السيئ، وجعله مقبولا لدى الناس، فالمعنى المعجمى للتورية هو «إخفاء المعنى الحقيقى»، وبهذا نجح دعاة العولمة فى تحوير المعنى الحقيقى لـ«الشذوذ الجنسى» المقابلة للكلمة الإنجليزية homosexuality لدى الرجال، وكلمة lesbianism أى «المُساحقة» لدى النساء، وتوحيد ترجمتهما إلى «المِثلية»، ونحن العرب انجرفنا لهذه التسمية الجديدة دون أن نعى أننا وقعنا فى فخ لغوى المقصود منه تمرير الفعل المشين، ومحاولة تجميله بتغيير اسمه والتقليل من واقعه السلبى الحقيقى!
ومن ناحية أخرى، يعتبر الفيلسوف الفرنسى جون بول سارتر JeanــPaul Sartre 1905ــ1980 صاحب النظرية الفلسفية «الوجودية» هو أول من نظَر وبرر للشذوذ الجنسى، فهو صاحب نظرية أن جسم الإنسان هو ملك له، له الحق فى أن يفعل به وفيه ما يشاء، وهذا على عكس المعتقدات الدينية التى تعتبر الإنسان والأرض وما عليها ملكا لله وحده، وعلى الإنسان المحافظة عليها فهو خليفة الله فى الأرض، فلا يحق للإنسان تغيير فطرة الله التى فطر عليها الإنسان والكون، ومنها أنه طالب الإنسان بالمحافظة على البيئة، كما أنه حرم الزنا والخيانة الزوجية وكذلك الشذوذ الجنسى الذى يوصف بـ«الزنا الأكبر»، ولنا فى قصة أهل لوط عِبَر!
والعلاقة الجنسية، فى كل الأديان، وكذلك فى الفلسفات القديمة، الغاية منها التناسل لحفظ النوع، وهى تقام ــ فى نوع الإنسان ــ بين رجل وامرأة، وفى الحيوانات بين ذكر وأنثى، ومن هنا جاء تحريم الشذوذ الجنسى لأنه لا يحقق هذه الغاية، ويُعتبر «عبثا»، هذا من الناحية الموضوعية؛ أما من الناحية الشكلية، وبتفسير سيميوتيكى semiotic (علم الإشارة)، فإن الإنسان بنوعيه ــ الذكر والأنثى ــ هو الوحيد من بين كل المخلوقات التى خلقها الله الذى تكون علاقته الجنسية «الجماع» وجها لوجه (face to face)، وهذا الشكل أو الوضع فيه احترام وتقدير للجنسين؛ فالرجل والمرأة ــ فى لحظة الجماع ــ يقوم بينهما حوار ثنائى (ديالوج) بالكلام وبحركات الجسد، وذلك ليُعبر كل منهما للآخر عن مشاعره الراقية، وحبه للطرف الثانى؛ وأما بين الحيوانات، فعلاقة «الجماع» تحدث باتصال الذكر بأُنثاه من «الدُبُر»، وليست مواجهة كما هى لدى الإنسان، فلا حوار ولا تعبير عن مشاعر بين الذكر والأنثى، والشذوذ الجنسى بين الرجال يتطابق وضعه مع وضع الحيوانات!
وقد وصف القرآن الكريم شكل «الجماع» لدى الإنسان عندما تحدث عن كيفية خلق الإنسان فى صورة بديعية راقية بقوله: «خُلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب» (الطارق: 6ــ7)، هذه الآية فسَرها فى ترجمته للقرآن إلى الفرنسية المستشرق الفرنسى جاك بيرك 1910ــ1995 Jacques Berque (عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة لمدة أكثر من خمسة وثلاثين عاما) بقوله: «فى لحظة الجماع، يظهر من الرجل ظهره، ومن المرأة صدرها» (أى وجها لوجه)، واستنتج أن «الصلب والترائب» هما كناية عن «الجماع»، لأن لا شىء يتدفق من ظهر الرجل، ولا من صدر المرأة، وقد تنبه بيرك إلى وجود هذين اللفظين فى مُعلقة امرئ القيس فى البيتين:
ــ مهفهفة بيضاء غير مُفَاضة... ترائبها مصقولة كالسجنجل (البيت 31)
ــ فقلت له لما تمطى بصلبه... وأردف أعجازا وناء بكلكل (البيت45)
وقد استشهد أيضا بهذين البيتين أبو بكر الإنبارى (فى شرح القصائد السبع الجاهليات، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، راجع «ذخائر العرب» دار المعارف 1993، الطبعة الخامسة، ص 75).
• • •
وبعيدا عن التفسيرات الدينية التى لن تُقنع من هم لا يؤمنون بالأديان السماوية ويهاجمونها، ويعتبرونها سبب تخلف أمم المشرق، لأنهم لم يفرقوا بين الأديان السماوية كنصوص إلهية مُشعة، ومُنَظِمة لحياة الناس والمجتمعات، وبين التفسيرات البشرية لهذه النصوص التى يمكن أن يكون بعضها أو ربما الأكثرية منها سببا فى تخلف المجتمعات الشرقية، نظرا لعدم تجديدها، وعدم ربطها بالواقع الزمانى والجغرافى، فإننا نقدم مقارنة بين الإنسان المالك لنفسه، وبين الإنسان المالك لسيارته، ونطرح الأسئلة التالية، هل لأن الإنسان صنع سيارته بيديه، واشتراها من حُر ماله، وبالتالى امتلكها، يحق له قيادة «ملكيته الخاصة» فى الممنوع أو فى الاتجاه المعاكس، أو يكسر الإشارات الحمراء، ولا يحترم علامات المرور المُنظِمة لحركة السيارات، والمتفق عليها فى كل أنحاء العالم...؟ وإذا سمح لنفسه بفعل هذا، ماذا تكون النتيجة؟ أليس فى هذا التصرف انحراف عن مفاهيم القيادة السليمة، وشروط استخدام السيارة مما يهدد المجتمع، ويقضى على أرواح الناس، ويدفع للفوضى؟!، هذا بالضبط ما يحدث عندما يدعى الإنسان أنه مالك لجسده، ومن حقه أن يفعل فيه وبه كيفما شاء، متحديا قوانين الطبيعة والفطرة السليمة!
وبالعودة إلى الفيلم صاحب الضجة، نرى أنه من الناحية الفنية ــ من وجهة نظرنا ــ لم يعرض جديدا، وليس فيه إبداع، فالقتل والخيانات الزوجية والفواحش من الزنا والكذب والمخادعة والمخادنة والنفاق والكذب... كلها موبقات ورذائل وقع فيها أو مارسها الإنسان منذ بداية الخليقة، فلا جديد فيما قدم الفيلم، سوى أنه خَلُص فى نهايته إلى أن كل الأصدقاء الذين اجتمعوا على طاولة واحدة، وفى حجرة واحدة انتهوا إلى أن ما كشفته لعبتهم من مساوئ بشرية هو أمر طبيعى، ولا غرابة فيه، وبهذا حققت شبكة نيتفليكس هدفها بنجاح بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى لتدمير قيم المجتمعات التقليدية والمحافظة!
وللموضوعية، نرى أن فكرة اللعبة التى ارتكز عليها موضوع الفيلم هى فقط الجديدة لأنها اعتمدت على جهاز جديد لم يكن موجودا من قبل اسمه «الموبايل» الذى يحمل أسرارا كثيرة من حياة كل إنسان، ولكنها أكدت، وفى نفس الوقت، كشفت عن تفاهة من يعيشون فى فراغ تام، وليس لهم عمل جاد، فمادة «التسلية» التى يلجأ إليها بعض الأثرياء الذين اغتنوا بأموال كثيرة كسبوها من دم المساكين فى مجتمعاتهم الفقيرة والغارقة فى مشاكلها بسبب فقد العدالة الاجتماعية، هى ليست بالجديدة فقد رأيناها فى أفلام أخرى نذكر منها ــ على سبيل المثال ــ فيلم «كابوريا» للفنانين حسين الإمام ورغدة وسحر رامى الذين كانوا يتسلون بمشاهدة مباريات الملاكمة التى كانت تقام فى قصرهم المنيف، والتى كان يتكسب منها قوت يومه الفنان أحمد زكى فى محاولة لتحقيق آماله وتطلعاته!
• • •
وختاما، يمكننا القول بأن الفيلم افتقد لأى فكر مبدع يُمَكِنه من معالجة السلبيات لدينا، أو أن يعمل نقلة نوعية لمجتمعاتنا التى تأخرت كثيرا عن ركب التقدم العلمى المهول الذى حققته الحضارة الغربية، فنحن لم نأخذ من الغرب سوى مخلفات حضارته، خاصة السلوكية منها لتظل مجتمعاتنا غارقة فى التخلف والتبعية لهم، وفضلا عن هذا فقد قدم لنا الفيلم تحريف المسلمات، وتزوير الحقائق، وتغيير المعانى، وعدم الانتباه لذلك سوف يدمرنا ويحطم قيمنا باسم الإبداع «الزائف» أو «المُزيف»!

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات