تتنوع نُظم الحكم بين ثلاثة أنواع: الأول ديمقراطى أى حكم الشعب للشعب، وفيه تكون المرجعية للقانون الوضعى، وبه فصل بين الدين والدولة (حكم علمانى وليس بالضرورة مُعاديًا للدين)؛ والثانى حكم ديكتاتورى، ويكون الحكم فيه للفرد، دون أى تمثيل للشعب كالمجالس النيابية، ودون فصل بين السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ والثالث حكم دينى تكون مرجعيته لعقيدة ولنصوص دينية جامدة، لا تقبل سوى تفاسير رجال الدين، مع العلم بأن الدين الإسلامى يعتبر الدين الوحيد الذى لا يوجد فيه رجال دين لتفسير نصوصه، لكن فيه «علماء» للتفسير، أى «مجتهدون» (يصيبون ويخطئون)، ولا يُشترط أن يكون هؤلاء العلماء من مُعتقدى الدين الإسلامى، فلقد أسهم بعض المستشرقين فى كثير من التفاسير التى أفادت المسلمين كثيرًا، وأضافت الكثير أيضًا للعقيدة وللحضارة الإسلامية!
يُطلق على النوع الثالث «الحكم الثيوقراطى» (Theocrat)، أى أن يكون الحاكم إما رجل دين كما هو الحال فى المذهب الشيعى، ويُسمى حكم الموالى (الولى الفقيه) مثل حزب الله، وفى السنة كما فى أفغانستان، أو أن يكون رجلًا مدنيًا لكن تابعًا لهيئة دينية تراجع كل قراراته مثل المرشد فى الجماعات الدينية، أو نظام ديمقراطى، ولكن مُهيمنًا عليه رجل دين كسلطة هى الأعلى فى البلاد (المرشد الأعلى) - فيفقد ديمقراطيته - كما الحال فى نظام الحكم بجمهورية إيران الإسلامية.
• • •
تدعى إسرائيل بأنها دولة علمانية إلا أن الحقيقة عكس ذلك، وادعائها هذا يعود لازدواجية المعايير لديها، ولخطابها المراوغ والمنافق، فهى تداعب به الغرب معتبرة نفسها بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط، إلا أن إعتدائها الأخير على إيران فضحها، وكشف عن أنها ليست علمانية - كما تدعى - أو مبنية على قوانين وضعية مثل كل الدول الديمقراطية، وبالتالى تحترم القانون الدولى، ولكنها دولة تُسخِّر أحدث العلوم لمصلحة دولتها الدينية العنصرية حيث مرجعية قراراتها نابعة من نصوص لاهوتية، وأكبر ما يدل على ذلك، أولًا سعيها الدؤب لأن تكون دولة «يهودية» خالصة، أى أن كل مواطنيها معتنقون للديانة اليهودية فقط، وثانيًا اتخاذها شعارًا دينيًا فى عدوانها على إيران: «الأسد» الصاعد!
تصف التوراة -فى سفر العدد، الاصحاح ٢٣، الفقرة ٢٤- الشعب اليهودى بالتالى: "هو ذا شعب يقوم كلبوة، ويرتفع كأسد، لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى"، بهذه الفقرة التوراتية رسم بنيامين نتنياهو - رئيس الوزراء الإسرائيلى - منهجهه وهدفه، ووضع هذه الفقرة على حائط البراق قبل الهجوم على إيران، وتُعد هذه محاولة منه للبحث عن ترخيص دينى لما أسماه بالضربات الوقائية التى قام بها ضد إيران؛ تعتبر هذه الفقرة جزء من نبوءة أحد أنبيائهم «بلعام بن بعور» الذى استأجره بلاق ملك موأب لكى يلعن بنى إسرائيل، لكن بتدخل إلهى لم يستطع بلعام أن يلعنهم، بل نطق ببركات عليهم بأمر من الإله يهوه رب اليهود!
هكذا يحاول الخطاب الصهيونى المراوغ والمنافق خلط الدين بالسياسة - أحد أهم أركان الدولة الدينية - وذلك للبحث عن ترخيص دينى يُبرر به الحرب الاستباقية التى شنها دون أى وجه حق ضد إيران، وللحقيقة فإن هذا التوقيف لبعض فقرات من التوراة - كعادة الدولة الدينية - يُعد تحريفًا سياسيًا للنصوص الدينية، واستغلالًا لنصوص مقدسة نزلت فى سياق معين، وذلك لتبرير العنف والحروب، وهى تمثل أيضًا نوعًا من «الاستعلاء الدينى القومى» الذى يربط بين التوراة والكيان الصهيونى المصنوع، هكذا يعترف نتنياهو وحاخماته بأن الحرب ضد غزة وإيران ليست عسكرية، بل فريضة دينية تُبشِّر بمجيئ المسيح اليهودى، وإقامة الهيكل الثالث!
• • •
والفقرة التوراتية - سابقة الذكر - مليئة بالاستعارات المكنية، فالمقصود بـ«ذا شعب» أبناء إسرائيل الذى يُشبهه النص التوراتى بـ«اللبؤة» (أنثى الأسد) التى ترمز إلى قوة اليقظة والاستعداد للصيد، وهى كناية عن أن بنى إسرائيل نهضوا بشجاعة وعزيمة قوية، ثم ارتفعوا كـ«الأسد» الذى يرمز للهيبة والقوة الملكية، والمعنى هنا أن بنى إسرائيل يَعلون ويترفَّعون على أعدائهم دون خوف، كما ينهض الأسد من مرقده استعدادًا للهجوم، ولا ينام حتى يأكل فريسته ويشرب دم قتلاه!
الصورة البلاغية قوية جدًا ومخيفة، فالتشبيهات بالحيوانات المتوحشة تعبير عن القوة العسكرية والبطش بالأعداء، وهذا ما يحدث الآن فى غزة وإيران، فالكيان الصهيونى لا يهدأ، ولا يستريح حتى يحقق النصر الكامل الذى لا يتحقق إلا عندما يلتهم فريسته (غزة وإيران)، وعندما يشرب دم القتلى كناية عن تحقيق النصر التام عن طريق الإبادة الجماعية، هذه بلا شك مواصفات كيان مريض بـ«السادية» الذى لا يهدأ بالَه إلا برؤية الدم!
هكذا يوظف نتنياهو وحاخماته هذه الفقرة وغيرها ليوهِم أعداء الكيان الصهيونى بأنهم أمة لا تُقهر، يتحركون بقوة اللبؤة، ويَعلون كهيبة الأسد، لا يهدأ لهم بال حتى يحققوا النصر التام بالإبادة الجماعية للآخر، كما جاءت على لسان نبيهم «بلعام بن بعور» الذى كان يراد له أن يلعنهم لكنه باركهم!
هذا هو تفسير أحبار اليهود لهذه الفقرة، فقوة بنى إسرائيل تأتى من عند إلههم يهوه الذى يصورونه فى توراتهم بأنه رب الجنود وإله الحروب، ويفسرون اللبؤة والأسد بالاستعداد الروحى والحربى، فاللبؤة تقوم فى الصباح الباكر كما يقوم بنى إسرائيل للصلاة والطهارة (ولهذا كان الهجوم الإسرائيلى على إيران فى الفجر)؛ وأما الأسد فيرمز إلى هيبتهم فى الحرب! (وللأمانة العلمية، فقد استعنا فى تحليلاتنا هذه بتويتة نشرها على صفحته بالفيسبوك الدكتور سعيد عطية، أستاذ مقارنة الأديان بقسم اللغة العبرية بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر).
• • •
وأما فى السردية الإسلامية التى تُنزه الأنبياء من القتل والعنف إلا فى حالة الدفاع عن النفس وبشروط واضحة تحمى المدنيين والنساء والأطفال والشيوخ، وتُدين الإبادة الجماعية، فقد أشار القرآن الكريم لقصة بلعام بن بعور فى سورة الأعراف بقوله: "وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ. وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُون" (175/176)
تتناول الآيتان قصة رجل -وليس نبي- آتاه الله آياته، ولكنه ابتعد عنها، وأتبَعَ الشيطان الذى قاده إلى الضلال، ولو أنه إتبع هداية الله وآياته لأصلح بهما دنياه وآخرته، وقد شبَّه الله هذا الرجل الذى ضلَّ بالكلب الذى إن طاردته يجرى ويلهث، وإن تركته يجرى أيضًا ويلهث، فهو لا يُميِّز بين من ينفعه ومن يضُره!
ولعلنا نلاحظ بجلاء تشبية بعض القصص "المشبوهة" فى التوراة لبنى إسرائيل بالحيوانات المتوحشة (اللبؤة والأسد)، وافتراسهما لبنى آدم، وأن سريرتهم لا تهدأ أبدًا إلا برؤية دم أعدائهم والقضاء عليهم بصور متوحشة وغير إنسانية أو بالأحرى بصور مرضية مثل "السادية"، بينما تشبيه الإنسان الضال –فى الإسلام- الذى يتبع هوى الشيطان يكون بالحيوانات الأليفة التى يمكن أن تنفع ولكنها لا تضر الآخرين، وتساعد الإنسان على البناء فى الأرض ولا تُفنيها، وهذا على عكس ما نراه فى التوراة، التشبيه فيها بالحيوانات المتوحشة التى تُدمر وتقضى على الإنسان وعلى الحياة بأكملها، ومن ناحية أخرى يؤكد التشبيه الوديع أو الأليف فى الإسلام بإلهية النص القرآنى لأنه يسعى للسمو الإنسانى، وكذلك لعالمية الخطاب، ولأنه يُبقى على الحياة، بينما فى المقابل يؤكد التشبيه بالحيوانات المفترسة التحريف البشرى فى التوراه لأنه يعمل على فناء الحياة، فهذا ضد الأهداف السامية الإلهية، كما أنه يُغرق فى المحلية وفى التخصيص لفئة معينة من البشر، فهو خطاب موجَّه لبنى إسرائيل فقط!
• • •
من المعروف أن الحروب تقوم بين دول متجاورة، يكون الصراع بينهما على مصالح اقتصادية أو نزاع على أراضى، ولكن المسافة الجغرافية بين إسرائيل وإيران كبيرة جدًا تتعدى دولًا كثيرة، وعليه نستطيع أن نُجزم بأن الحرب الدائرة الآن بين إسرائيل وإيران هى حرب بين دولتين دينيتين، كلاهما يريد تدمير الآخر، مع العلم بأن إسرائيل هى الدولة المعتدية، ومع الأخذ فى الاعتبار بأن مكونات كل دولة مختلفة عن الأخرى، فإسرائيل على رأس سلطتها شخص علمانى، ولكنه يسعى لتحقيق أهداف استعمارية (فى فلسطين وغزة) تتمثل فى إلتهام فريستهم، وشرب دماء قتلى الفلسطينيين مثل اللبؤة والأسد فى قصتهم التوراتية، وفى المقابل، النظام الإيرانى على رأسه رجل دين يسعى لتحقيق أهداف سياسية وهى نشر المذهب الشيعى فى محيط الدول الخليجية المجاورة: هدف سياسى استعمارى أيضًا، الحرب إذن بينهما حرب استعمارية توسعية فى المقام الأول، لكنها بخطايات دينية!
هذه الحرب ستنتهى حتمًا يومًا ما، ونتائجها من المؤكد ستكون كارثية ليس على البلدين فقط، ولكن من المؤكد أنها ستصيب دولًا كثيرة مجاورة لكل منهما، خاصة إذا استطاع أحدهما تدمير أى مفاعل أو قاعدة نووية، فالإشعاع النووى سيتناثر فى أجواء كثيرة وبعيدة، ولمدد زمنية طويلة، ولهذا نقول بكل ثقة أنه حتى إذا انتصرت إحداهما على الآخر، فالآخر سيتضرر حتمًا بأضرار كارثية، وسيأخذ بلاده لنفس المصير الكارثى للمنهزم، فلن ينجو أحد من البلدين ولا من بلاد الجوار، فهذه - مهما طال الزمن - نهاية كل دولة ثيوقراطية: «السقوط المدوى»، وعلاماته ظهرت بوضوح، فبعد أسبوع واحد من بداية الحرب، تنازل المرشد الأعلى الإيرانى عن سلطاته وأوكلها للمجلس العسكرى الأعلى الثورى، وكذلك إسرائيل تعلن إفلاسها وعدم قدرتها على المواصلة، وعدم تحقيق أغراضها بمفردها فى إيران، فيتدخل ترامب رئيس الولايات المتحدة بقواته مباشرة لإنقاذها، وهذا يُعد -من وجهة نظرنا- سقوطًا واضحا للدولتين الثيوقراطيتين: إيران وإسرائيل!
وتؤكد تجارب التاريخ الطويل فى كل العصور، وفى كل الحضارات حتمية سقوط الدولة الثيوقراطية، وآخر هذه التجارب فى عصرنا الحديث سقوط نظام الإخوان فى السودان بقيادة عمر البشير فى 11 أبريل 2019، ومن قبلها سقوط نظام الإخوان أيضًا فى مصر فى 30 يونيو 2013، والذى لولا جيش مصر لأصبحنا فرقًا وشيعًا متحاربة مثلما حدث فى السودان وفى غيرها!