عادات وممارسات أخرى عفت عليها أزمنتى - جميل مطر - بوابة الشروق
الأربعاء 5 نوفمبر 2025 2:54 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يحسم السوبر المصري؟

عادات وممارسات أخرى عفت عليها أزمنتى

نشر فى : الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 - 5:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 - 7:35 م

 كتبت عن عادات وممارسات عفا عليها زمن من أزمنتى العديدة، عدت أقرأ ما كتبت لأكتشف أننى أهملت، عن غير قصد، عادات وممارسات أخرى عفت عليها نفس الأزمنة وربما أزمنة أخرى. أكتب هنا عن بعض ما أهملت وهو كثير.

• • •

نعيش هذه الأيام فى مصر حالة انتخابات نيابية. لا أمارسها شخصيًا وبلغنى أن لا أحد من عائلتى الممتدة يمارسها أو يتفاعل معها ولو بالانفعال أو للتسلية. يسعدنى القول ولعله التصريح بأن الأمر اختلف جدًا فى زمن مضى. كنت تلميذًا فى مدرسة الخديو إسماعيل الثانوية عندما جرت آخر انتخابات برلمانية فى مصر. أذكر جيدًا المرشح المحترم عن الحى ببذلته كاملة وربطة عنق وطربوش يمتطى بردعة فوق ظهر حمار وأطفال الحى وبعض شبابه من حوله وخلفه وأمامه يمشون وهم يهتفون باسمه، أقصد اسم النائب المحترم.

كان الهتاف على امتداد الحى واتساعه واحد لا يتغير ويتبادله فريقان، فريق يسأل «تنتخبوا مين» وفريق يجيب «فلان بيه». تعليمات أمى كانت تقضى بأن أتخلف عن المسيرة قبل وصولها إلى نهايتها رغم علمها، أو ربما لعلمها، بأن أرغفة محشوة بالخبز «المسقى» واللحم المسلوق وأخرى بالخبز نفسه ولكن المسقى بشوربة الفول والغاطس فى كم كبير من الفول النابت، تنتظرنا فى نهاية المسيرة عند جامع الحى فى شارع يقع على بعد شارعين من بيتنا.

• • •

على ما أذكر لم تخل عائلة فى ذلك الزمن من علاقة بالريف، قوية كانت العلاقة أو ظرفية. أنا شخصيًا تعرفت على ريف مصر بفضل ثلاثة مصادر. كنت طفلًا أسمع خالاتى فى اجتماعاتهن الأسبوعية فى بيت جدتى يتحدثن عن مشكلات مع فلاحين يستأجرون أراضى يمتلكنها فى قرية أو أخرى.

عرفت أن هذه القرى قريبة وسبب اهتمامى بها أن قطار الأسكندرية كان يمر عليها ولا يتوقف عندها. كانت هواية أعتز بها وأنا تلميذ عاشق للجغرافيا أن أحفظ عن ظهر قلب أسماء جميع المحطات التى يتوقف عندها القطار أو يمر عليها مسرعًا لكن معلنًا هذا المرور بصفارته الغليظة والقوية. أعلم جيدًا أن لا أحد من أهلى زار الريف أو أقام فيه وإن كان لخالاتى أرض فيه يشرف عليها ويحل مشكلاتها العالم الأزهرى المتزوج من إحدى الخالات. لن أخفى أننى بتطلعات طفل كثيرًا ما كنت أزعم أن لنا مع الريف علاقات وأرض وأقارب. كان الريف عزوة يستحق الانتماء لها.
• • •

كانت الشغالات العاملات فى بيوتنا المصدر الثانى لعلاقتى بريف مصر. كنت أنتظر بلهفة الزيارة الشهرية، أو كل شهرين، التى تقوم بها أمهات الشغالات العاملات فى بيوت عائلتنا الصغيرة. تأتى الواحدة منهن بملابسها السوداء أو القاتمة، وعلى رأسها «قفة» تتسع لعدد من أرطال الزبدة البلدية وفطيرتين مشلتتين وبطة مذبوحة ومسلوخة ورطلين أرز ورغيفين أو أكثر من الخبز الفلاحى وقوالب جبنة قريش وعينات من حاصلات زراعية.

تأتى الأخرى «أم فاطمة» دون قفة على رأسها أو بين يديها ولكن بثروة هائلة من الحواديت. تجلس فى ركن الغرفة والأطفال، وأنا وسطهم، فى نصف دائرة من حولها، تحكى من رصيد لا يفنى من الحواديت عن أمنا الغولة وأبورجل مسلوخة، وعن جلالة ملك مصر الذى خرج ليمشى بجانب النيل مع حاشيته فوقع نظره على أم فاطمة، وهى تغسل قدميها وساقيها فظهر قميصها ذو «الكورنيشه»، فأعجب الملك به حتى إنه أصدر أوامره للحاشية بتسمية الشارع بالكورنيش. تقسم لنا أن القصة حقيقية مثل كل قصصها، وكانت جميعها على هذا المنوال.

• • •

مصدر آخر لعلاقتى بريف مصر كان أصدقاء المدرسة وأصدقاء والدى. إذ بحكم الدراسة فى بيئة مختلطة اجتماعيًا تكونت لى صداقات حميمة مع تلاميذ من أصول أرستقراطية ومن عائلات تمتلك أراضى. كذلك كانت لوالدى صداقات ودوائر علاقات قوية مع قيادات حزبية وأثرياء معروفين أظن أنها تكونت نتيجة لنشاطه الحزبى والاجتماعى. أذكر أننى قضيت نهايات أسبوع عديدة فى «عزب» يملكها أهل لزملاء من التلاميذ وأصدقاء لأبى. أذكر الولائم الفاخرة حيث كان يجتمع عليها باشوات ورجال من الإدارة العليا بينما تختص بإطعامنا نحن الأطفال على موائد أصغر حجمًا وليست أقل وفرة وتنوع، أقول تختص بإطعامنا فلاحات من نوع مختلف وملابس مختلفة.

اكتشفت فى سن مبكرة بين اكتشافات أخرى عديدة أن فلاحات «الدوار» يختلفن فى كل شىء عن فلاحات «الغيط». أتذكر ملابسهن زاهية الألوان وشعورهن المكشوفة. كن مكلفات بالاطمئنان قبل وصولنا على أن الغرف التى ننام فيها خالية من الناموس، حتى مع وجود الناموسية. كن مكلفات أيضًا بالبقاء معنا حتى ننام مزودين بحواديت ودردشات أغلبها عن غراميات الشاطر حسن ومغامراته. حواديت ودردشات تبقى معى أختار من بينها ما يسلينى فى وحدتى فى غرفة غريبة و«دوار» أشد غربة وأصوات الضفادع والصراصير الليلية لا تفارق حتى الفجر.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي