«أمنا الغولة» فرت من الحكاية الشعبية الفلسطينية! - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:46 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أمنا الغولة» فرت من الحكاية الشعبية الفلسطينية!

نشر فى : الثلاثاء 4 مايو 2021 - 7:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 4 مايو 2021 - 7:55 م
نشر موقع رصيف 22 مقالا للكاتب دنيا الطيب تناولت فيه التغيرات التى طرأت على الحكايات الشعبية... نعرض منه ما يلى:

للحكاية الشعبية فى فلسطين قيمة تراثية وهوياتية. ولعل معرفتها وتحليلها، فى ظل الحداثة وما بعدها وفى عصر الغزو التكنولوجى، يمثل تشريحا لحالة المجتمع الفلسطينى على مدى التاريخ، ويفسر التغير القيمى والمفاهيمى لطبيعة الواقع المعيش.
يعود أصل الحكاية الشعبية إلى الهند، كما يروى نمر سرحان فى كتابه «الحكاية الشعبية الفلسطينية»، فهى بدأت على هيئة قصص بوذية لأغراض تعليمية. انتشرت لاحقا على يد العرب ثم البيزنطيين إلى أوروبا. إلا أن بحثا آخر يرى أن الحكاية الشعبية ابنة «شعبها»، تحاكيه وتعبر عنه، فيحررها من «الصندقة المكانية» والخصوصية المرتبطة بأصل معين.
العادات والتقاليد شاركت بمعية الدين والميثولوجيا فى صناعة الحكاية الخرافية الفلسطينية الأولى، وصبغتها بألوانٍ «قوطية» مستقاة من طبيعة الأماكن التى نشأت فيها. فهى حكايات بألوان مظلمة، جبلية، مأخوذة من التراب والأرض والفِلاحة، من عالم المشقة، وأبطالها إما أبناء للموت وإما للأسطورة التى تخلدهم بعد انتصارهم على الغيلان والوحوش.
الحقيقة أن للغول جذورا جاهلية تنتمى إلى العصر الجاهلى الذى أسطَر هذا الكائن الخيالى، فصوره على أنه مخلوق بقوى غيبية، عيونه حمراء متوهجة، صوته كصوت الكلب حين يهم بالهجوم، كائن مهمَل أظافره طويلة وقذرة، كائن ليلى يتوارى فى النهار. ولكنه رغم القذارة والتخفى قادر على فعل أى شىء، وكأن الله أودع فيه نفحة من ألوهة منسية، وطبعا هو نوع من أنواع الجن والشياطين.
«أبو رجل مسلوخة» هو امتداد مشوه للغول، بتحويرات لا تخلو من شيطنة وصفية، فهو غول نصفه الأعلى إنسان ونصفه الأسفل حمار، بفخذين مسلوخين حمراوين، وله ذيل طويل. لعله ينتمى إلى نوعٍ من أنواع الآلهة فى طور نموها وتشكلها خلال عصر من العصور السحيقة. لذا ليس غريبا أن نجد غالبية الحكايات الخرافية تحاكى ما علِق من رواسب فى عقول المجتمعات القديمة من إيمانٍ بالأرواح والشعوذة والسحر.
أما حكاية «الرجل والحية»، فيها تتويج لسلطة الأفعى «الملكة» التى تنأى بنفسها عن البشر وحيواتهم بالمكوث فى قعر البئر. وتكمن الحبكة فى صعوبة الوصول إليها وقتلها؛ لأن فى سمها شفاء للملك. تتماهى الأفعى فى الخرافة الشعبية مع مفهوم الأفعى فى الحضارات القديمة، فهى إلهة، قادرة على شفاء الناس. كما ترمز الأفعى إلى الحكمة والمعرفة لاستيطانها الأرض، وفى مصر القديمة ساعدت الأفعى الربة «إيزيس» فى نقل المعرفة إليها، لذا نرى فى نصب قبر الفرعون قصرا يعلوه ثعبان. الحل فى الحكاية يفرض على البطل شرب سم الأفعى ليخلد ويحكُم إلى الأبد بدلا من الملك المريض، وفى هذا إشارة إلى ارتباط الثعبان القديم بالخلود، فالأفعى «حارسة ينابيع الحياة».
***
لطالما كانت التغطية الأكاديمية من مقالات وأبحاث ودراسات حول الحكاية الخرافية الفلسطينية تحديدا، تغطية خجولة، لكننا نستطيع التمييز بين زمنين شكلا فرقا فى صياغة مفاهيم الحكاية القديمة والحديثة من بطولةٍ وشخوص وأحداث وأمكنة. الزمن الأول يتعلق بحياة ما قبل النكبة، والثانى بما بعدها؛ أى فترة الاحتلال الإسرائيلى ــ النكبة والنكسة. وثمة زمن آخر يزحف باتجاهنا، وهو «زمن الحداثة» وليد التكنولوجيا والإنترنت.
يقول الأديب الفلسطينى محمود شقير لرصيف 22، فى حديثه عن تغير مفهوم البطولة: «كان البطل فى الحكاية الشعبية القديمة ينهض بوظائف محددة، من بينها حاجة الجماعة إلى الانتصار على الظلم؛ الظلم الذى لا يستطيعون مجابهته على أرض الواقع، فلينتصروا عليه عبر الحكاية. ومن بين هذه الوظائف كذلك الحاجة إلى تحقيق المتعة والتسلية فى ظل عدم توافر وسائل أخرى للمتعة والتسلية للطبقات الشعبية الفقيرة فى المجتمع. اليوم؛ فى العصر الحديث، اختلفت الأحوال. أصبح البطل شخصا واقعيا طالعا من أوساط الشعب. وأصبح الشعب قادرا على مقاومة الظلم وعلى التضحية فى سبيل حياة حرة كريمة. كذلك؛ لم يعد الناس إلى الحكاية الشعبية لكى يظفروا بالمتعة والتسلية، فقد أصبحوا يعتمدون على التلفاز وعلى اليوتيوب لتحصيل المتعة والتسلية».
أما عن تجسيد بطولة المكان فى النص، فيقول شقير: «إنه نابع من الخطر الذى يتهدد المكان الفلسطينى بالمصادرة والاستيطان مرة، وبمحاولات أسرلة المكان وتهويده كما هى الحال فى القدس مرة أخرى. لذلك كان من الضرورى إبراز صورة المكان الفلسطينى لحمايته من الأخطار التى يمثلها الاحتلال».
تطورت بعض المفاهيم فى الحكاية الشعبية بعد النكبة واحتلال إسرائيل لجزء كبير من فلسطين، فحفلت بعض القصص بالخيال لصالح الواقع المشروخ فى سبيل إنقاذ الذاكرة الوطنية التى رفضت أن تُترك على أعتاب أبواب منازل صارت ملكا لغرباء. لذا فهى قصص تميل إلى الملحمية، ولم تعد أماكنها مجهولة بل تفوق المكان على الشخصيات نفسها، استُخدمت أسماء قرى ومدن حقيقية، مثلت الشخصيات حالة الضياع التى يعيشها الفلسطينى، الانكسار، الهزيمة، وتآمرت الأماكن مع التعددية وثارت على مفهوم الوحدة المكانية، فهناك القرية المتروكة، ثم المدينة الغريبة، ثم العراء بحالته الأقسى، فهو ليس مكانا مؤقتا يذهب إليه البطل لغايةٍ مؤقتة، بل مكانا دائما تُنصب فيه خيام اللجوء. صارت إسرائيل الغولة فى جميع القصص، وصار الفلسطينى بطلا مشردا يُطهى على نار الخيانة الهادئة.
***
استعان شقير بالحكاية الشعبية فى قصته «بقرة اليتامى«؛ إذ يذبح الأغنياء البقرة فى ظل احتجاج أصحابها اليتامى، كما استعان بالمرأة الحكاءة فى روايتى: «فرس العائلة»، و«مديح لنساء العائلة».
يذكرنا شقير بعمل الروائى الفلسطينى إميل حبيبى، المقتبَس من عالم الحكاية الشعبية، بعنوان «سرايا بنت الغول» فيعلق: «كتبها إميل حبيبى مستفيدا من الحكاية الشعبية التى تقول إن غولا اختطف بنتا جميلة لها جديلتان طويلتان، واحتجزها فى قصره. وظل حبيبها يبحث عنها حتى عرف مكانها، ثم قامت بمد جديلتها له من نافذة القصر، ما جعله قادرا على الصعود إليها لكى ينقذها من سطوة الغول».
فى العصر الحالى، جُردت الغيلان من حُكمها الأسطورى للقصة، لم تعد مُلاحَقة من أحد أو ملاحِقة لأحد، لعلها دُفنت بعد أن أطبق «نص نصيص» الجرة عليها. إلا أن بعض الأساطير المتعلقة بالغيلان والجن وظفت على نحو آخر يتماشى مع طبيعة ما يتعرض له الفلسطينى من ظلم واحتلال، ولم يقتصر الأمر على الرواية فحسب، بل طال الشعر أيضا.
ترك الفلسطينى عُملاء الأسطورة جانبا، لا جان ولا غيلان، تخلى فى خطاباته عن الخيال وتآمر مع الحقيقة، كما نرى فى قصيدة «مصباح علاء الدين إلى صهباء»، يحول معين بسيسو طائر الرخ إلى إنسان بهوية فلسطينية تنفى الأسطورة وتتخذ من الواقع بيتا لإنقاذ الحالة السياسية والاجتماعية.
ما بين حنين وليد سيف فى أشعاره إلى حكاية «أبو رجل مسلوخة»، وما بين استبدال أحمد دحبور لشعرة الجنى بالإرادة، نلمس حضورا متفاوتا للتراث يمزج بين الحنين والاستعادة، وبين التمرد والثورة، فيحاكى خطابا جديدا من إنتاج الواقع الحالى، خطابا ينتمى إلى القضية الفلسطينية.
***
فى السنوات الأخيرة، طرأ نوع من «التعليب» للقصص الشعبية عامة، والحكايات الخرافية خاصة، بعد ظهور قنوات صنعت قصصا مغناة مستقاة من عوالم الحيوانات بلغة منمقة وحضور لونى قوى يهدف إلى الاستحواذ على البصر بما يلغى القيمة اللغوية/ النصية، إن وجدت. والأسوأ من هذه القنوات رواج «اليوتيوب» والأفراد الذين اعتمدوا الإنتاج الفردى المستقل للأغانى التى تلتزم نسبة معقولة منها بلغة أجنبية كالإنجليزية، مما جعل اللغة العربية أولا، واللغة المحكية ثانيا تناضل ضد شعورها بالهَجر والإقصاء. فضلا عن تنشئة هذه القنوات لأطفال بقدرات لغوية محدودة، يعانون تأخرا فى النطق ويجدون صعوبة فى التعبير عن احتياجاتهم.
يؤكد شقير أن الغيلان ماتت فى مكان، وظلت حية فى مكان آخر، مشيرا إلى انتهاء عصر الجدات اللواتى كن يجمعن الأبناء والأحفاد؛ فقد احتل كل من التلفاز وقنوات اليوتيوب الحيز المكانى المخصص لهذا النوع من الأدب. الغيلان الحية فى المكان الآخر لم تزل تسف من حبكات الأعمال الأدبية كما قال شقير: «الحكاية الخرافية لم تعد موجودة فى التداول اليومى بين الناس، ولم تعد الأجيال الجديدة تعرف شيئا عن هذه الحكايات. لكن حضورها فى النتاجات الأدبية ما زال حاضرا، وأظن أنه سوف يستمر فى الحضور. حيث يستلهم الأدباء هذه الحكاية ويستفيدون منها فى سردهم الحديث مع قدر من التصرف فى مضامينها وفى اجتهاداتها الفكرية والسياسية والأخلاقية».
تغييب الغيلان يشبه غياب الإله والقيم العليا التى حكمت شعوب الحداثة، ولا حاجة لاعتراف جنائزى لن يكلله أحد بالزهور حول تراجع الحكاية الخيالية من عمومية التناقل الشفهى إلى خصوصية حضورها الأدبى. لم نعد نعثر عليها خارج سطور الكتب، لم تعد تعيش ولو بمجهولية فى أذهان الأطفال الصغار؛ يسمعون عن الغيلان فلا يخافونها، نحذرهم من «أبو رجل مسلوخة» فلا يفرون منه.
سُرقت أمنا الغولة من قعر خيالاتنا ولم تعد تجسيدا لقيم أخلاقية أو قضايا وطنية، وإنما حُشرت داخل جهاز «تابلت» وقناة «يوتيوب» لترقص على أصداء ألحانٍ مكررة ولغة ركيكة. نحن الآن نعيش زمن ما بعد الحداثة، ما بعد الأسطورة وما بعد الواقع أيضا. أظن أننا نقلنا الصغار عنوة من عالمِ الخيال إلى فرط المعرفة وبلادة الصورة الملونة والحكاية المترجمة

النص الأصلي

التعليقات