الباحث والكاتب عمار على حسن حالة خاصة ومختلفة جدا فى تاريخنا الثقافى المعاصر. لقد حقق الرجل باجتهاده وكفاحه الفكرى وقلمه النزيه شعبية وجماهيرية كبيرة جدا قلما تتحقق لأحد خارج سياق دوائر الشهرة والرواج المعروفة الآن (دوائر الإنتاج الثقافى الرائجة؛ البيست سيللر، السينما، الميديا.. إلخ) .
منذ ظهر على الساحة الثقافية برسالته العلمية الممتازة عن «التنشئة السياسية للطرق الصوفية فى مصر»، ثم بأطروحته التى لا تقل قيمة ولا أهمية عن علم اجتماع النص الروائى، ثم بإنتاجه المتميز الرصين فى مجالات علم الاجتماع السياسى، ودراسة الأيديولوجيات السياسية، وتيارات الإسلام السياسى، وهو لا يكف عن العطاء والكتابة، وإسهاماته الهائلة فى دوائر التثقيف الفكرى والأدبى، فضلا على نزوعه الإبداعى الأصيل (طموح عمار على حسن الأول والأخير هو الكتابة الإبداعية؛ رواية وقصة) كلها تشهد بجديته وصدقه وإخلاصه.
وأما بساطة الرجل وتلقائيته وعفويته فهى مضرب الأمثال؛ تفرغه الكامل للقراءة والكتابة والتأليف الفكرى والأدبى؛ جعلاه واحدا من أغزر المؤلفين فى ساحتنا الثقافية المعاصرة؛ كما ولا بد من الاعتراف بأن له أعمالا مرجعية لا غنى عنها فى بابها لكل باحث أو دارس أو مهتم.
فى سيرته الذاتية الممتعة الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية؛ بعنوان «مكان وسط الزحام ـ تجربة ذاتية فى عبور الصعاب»، أنت أمام واحدة من أهم وأجمل تجارب السيرة الذاتية التى ظهرت فى السنوات الأخيرة، ورغم أنها سيرة مكتنزة (تقع فى نحو 360 صفحة من القطع المتوسط) إلا أنها قد تقرأ بكاملها فى جلسة طويلة ممتدة أو جلستين؛ دون أن يعنى ذلك أبدا عدم تمتعها بغزارة وثراء مدهش فى تفاصيلها الإنسانية والحياتية، وتغطيتها لمساحة زمنية عريضة فى عمر صاحبها وتاريخ مصر أيضا.
تحفل سيرة عمار على حسن بخاصية لافتة تضفى عليها قدرا من الطرافة والإمتاع، وهى اقتناص المفارقات فى المقارنة بين أوضاع الحياة المختلفة دون سخرية مرة، إنها من أمتع وأنقى السير التى قرأتها فى السنوات الأخيرة؛ صورة أمينة لصاحبها بكل ما تحفل به شخصيته من طيبة وبساطة واشتباك مع الواقع والأحداث والبشر، لفتنى إلى حد كبير أن بنية السيرة وطريقة سردها تشبه كثيرا جدا شخصية عمار بتداخلها وعدم الاهتمام بتقسيمها إلى فصول ووحدات مرقمة، هى أشبه فى انسيابيتها بحياة تشبه النهر الذى لا يتوقف عن المضى فى مجراه الخالد؛ لا يكف عن التغير والتطور وتنقية ومراجعة ذاته وأفكاره، تتداخل فى تكويناته الفكرية والثقافية والإنسانية دقة الباحث ومنهجيته، وحس الأديب وعاطفيته الجارفة، والاتصال الجماهيرى بزخمه وشعبيوته واختزالاته أحيانا، كل ذلك لم يطغ على الطبيعة المصرية النقية الطيبة التى تميز الرجل وتمنحه شخصيته الودودة المحبة للبشر.
الصورة الكلية التى يقدمها بأمانة للحقبة المعاصرة من تاريخ مصر بمنظوره النقدى الذاتى تتسم بالصدق والوضوح، خاصة لأن وعيه السياسى، واشتغاله منذ مطلع الشباب بالحركات الفكرية، ودراسته الأكاديمية منحاه ــ على عكس ما يظن كثيرون ــ قدرة تحليلية فائقة مع مرونة لافتة فى العرض والكتابة، ولعل هذا ما يفسر فى نظرى غزارة وتنوع إنتاج عمار على حسن، وفى مجالات عدة ومتباينة؛ لكن يبقى من بين هذه المسارات إسهامه الرائع فى كتابة المقال السياسى المعاصر الذى أتصور أنه يستحق دراسة أسلوبية تحليلية خاصة تكشف عما تتميز به كتابته المقالية من بساطة وعمق ومرونة لافتة فى التعبير السياسى والتحليل النقدى دون الانزلاق إلى فخ التقعر وإضفاء القيمة وادعاء النخبوية كما يفعل كثيرون!
وقد يستوقف القارئ لهذه السيرة كيف بلور عمار على حسن مواقفه وقناعاته الإنسانية والسياسية والفكرية من التحولات الكبرى فى مصر، وكيف تأمل بذاته لذاته مواطن الإثارة الإبداعية فى لحظات خمودها وتوهجها، مما يبسط أمام قارئه نموذجا للكشف عن العوامل الكامنة وراء بروز إنتاجهم وظهوره للنور، وربما من هنا تأتى الأهمية الفائقة لحديث عمار على حسن عن تفاصيل كتابته لأعماله الروائية والقصصية التى يوليها اهتمامه الأكبر، ويعرض لها بشغف صادق وحقيقى..
(وللحديث بقية) ..