بدعوة كريمة من أستاذ جميل مطر اجتمعتُ على الغداء مع نيرمين وكارولين وهما فتاتان مسيحيتان أرثوذوكسيتان- وسنرى لاحقًا لماذا حرصتُ على هذا التحديد الدقيق. تقيم نرمين مع زوجها وابنتيها في ولاية ڤيرجينيا الأمريكية وتزور مصر من وقت لآخر، وتقيم كارولين مع قطتها في القاهرة بعد أن كانت قد انتقلَت للعاصمة من إحدى المحافظات المصرية. كان يمكن أن يمّر الغداء عاديًا وأن تكون المكرونة اللذيذة بالصوص الأحمر التي اخترتها وبعض الأخبار والطرائف المتبادلة هي كل ما يتبقّى محفوظًا في الذاكرة، لكن ما جاء في حديث الشابتين كان مثيرًا إلى حدّ شغل تفكيري على مدار الأسبوع الماضي كله.
• • •
تهتّم نيرمين بمشروع كبير يقوم على توثيق الأكلات المصرية وإثبات نسبها إلى المطبخ المصري بعد أن لاحظَت أن هناك دولًا كثيرة تسطو على تلك الأكلات وتدعّي براءة اختراعها، بينما هي مصرية الفكرة والتنفيذ والأهم أنها مصرية النَفَس بفتح النون والفاء. لمعت عيناها وهي تتكلّم عن البصارة والعيش الشمسي والسمك المشوي بالردّة، وجعلتني من فرط حماستها أتعاطف مع معاناتها وهي لا تجد ردّة في السوق الأمريكية حتى أنها تضطّر بعد كل زيارة تقوم بها لمصر أن تأخذ معها كم كيلو ردّة لزوم إعداد وجبة السمك المشوي. تفتقد نيرمين خُضار مصر وتوابل مصر وفاكهة مصر، وتفتقد حتى طريقة الطهي المصرية لأكلات مفروض أنها عالمية، ولذلك عندما وضع الجرسون أمامها طبق المكرونة بفواكه البحر، أطلقَت صيحة إعجاب وأخرَجَت الموبايل من حقيبتها لتصوير هذا الطبق الشهي. تنظر نيرمين بإيجابية شديدة لكل ما تعتبر أنه تطوّر في مصر خلال السنوات الأربع عشرة التي غابت فيها عن بلدها، تقارن بين الأمن هنا والأمن في أمريكا فتجد أن مصر تكسب، فهي على سبيل المثال وجدت نفسها مضطرة أن تلحق ابنتها بحضانة يهودية في ڤيرچينيا بعد أن صار السلاح في أيدي الجميع، والأنكى هو أن السلاح بات مصوبًا لصدور الجميع بعشوائية مطلقة. هذا الاعتبار المهم حكَم اختيارها للحضانة اليهودية، لأنه بالإضافة إلى وجود هاجس أمني عام لدى كل المقيمين في أمريكا، يوجد هاجس خاص لدي اليهود لأسباب مفهومة ما يجعلهم يحسنون حماية تجمعاتهم. ليس هذا فقط لكن نيرمين تلحظ أن هناك تراجعًا في مظاهر التمييز الديني بين المصريين، فأشجار الكريسماس تنتشر بكثرة في الميادين وزينة العام الميلادي الجديد تلّف المولات الكبرى في الشيخ زايد والتجمع الخامس ومصر الجديدة، وهي نفسها ترتدي سلسلة يتدلّى منها صليب كبير من الذهب الأبيض فلا شيء يمنع من إبراز الهوية- هذا بفرض أننا نحتاج أن نبرز هوياتنا في حلّينا، وهي تعتّز جدًا بأن الرئيس يداوم على الذهاب للكاتدرائية للتهنئة بعيد ٧ يناير.
• • •
عندما يأتي الدور على كارولين يُخَيل إليك أن الحديث لم ينتقل من شابة لأخرى على نفس مائدة الطعام، بل هو انتقل من رؤية معيّنة لرؤية أخرى مختلفة تمامًا عن نفس البلد ونفس الناس، ومن داخل نفس الطائفة المسيحية: الأرثوذوكسية. في فيلم "طيور الظلام" للعبقري وحيد حامد، ينظر البطل فتحي نوفل أو عادل إمام من وراء زجاج النافذة في أحد فنادق الخمس نجوم بالقاهرة ويقول "البلد دي اللي يشوفها من فوق غير اللي يشوفها من تحت"، فهل يمكن أن نطوّر هذه الفكرة لنقول إن البلد دي اللي يشوفها من الخارج غير اللي يشوفها من الداخل؟ أمر وارد لكنه لا يعبّر بدقة عن درجة تعقُّد الموضوع، ففي الخارج هناك مَن ينظر للداخل المصري بإيجابية شديدة ويطبّق المَثَل الشهير "من فات داره اتقّل مقداره"، وهناك في المقابل مَن يشيطن هذا الداخل إلى المدى الأقصى ويحرّض على بلده ليلًا ونهارًا. كما أن الذي ينظر لمصر من الداخل قد يتبنّى نظرة متشائمة لا تبصر إلا نصف الكوب الفارغ، وقد يتبنّى على العكس من ذلك نظرة متفائلة ترى أن الدنيا ربيع. وبالتالي ربما كان يجدر عند تفسير الاختلاف إدخال عدة عوامل، منها عامل الطبقة الاجتماعية، لأن ما يحدث في الشيخ زايد لا يتكرّر بالتأكيد في امبابة. ومنها عامل القرب أو البعد عن المركز، فالعاصمة تختلف ليس فقط عن محافظات الصعيد لكن تختلف حتى عن الإسكندرية ثاني أكبر مدينة مصرية. ومنها بالطبع عامل السياسة، فعندما تلوّن السياسة أي عدسة لا تحدثني عن دقة الصورة.
• • •
تحكي كارولين بمرارة عن ابن أخيها في أول يوم له بحضانة المدرسة التجريبية بإحدى المدن الكبرى بوجه بحري، وكيف فوجئ الصغير بوضعه هو وطفلة مسيحية أخرى في فصل غير الفصل الذي يتلقّى فيه التلاميذ المسلمون حصّة الدين. لم يدخل للصغيرين مدرّس مسيحي لمدة ساعة إلا ربعًا مثلما دخل لباقي التلاميذ مدرّس مسلم، إما لأن هذا المدرّس المسيحي لا يوجد من الأصل، وإما لأنه إن وُجد فإنه سيكون مشغولًا على الأرجح بتدريس الرياضيات أو العلوم أو اللغة الإنجليزية.. إلخ لسنين دراسية أخرى، فوجود تلميذين مسيحيين اثنين يجعل تخصيص مدرّس لتعليمهما مبادئ الدين أمرًا مرتفع التكلفة. عاد الصغير من مدرسته باكيًا وطلب من أمه أن تدَق له صليبًا على رسغه، هل يجد الصغير أن وشم الصليب يجعله مرئيًا أكثر ومأخوذًا في الاعتبار أكثر طالما أن المدرسَة أسقطته هو وزميلته المسيحية من حسابها؟ يظن الصغير أن مجرد دقّ الصليب على رسغه هو الحل، لكن أغلب الظن أن الصليب لن يُغيّر من الأمر شيئًا ولا علاقة له بحّل مشكلة تدريس الدين المسيحي، فهذه المشكلة قديمة ومعروفة واستمرارها يولّد شعورًا بالتهميش.
• • •
مسألة الإدماج والتهميش، والأغلبية والأقلية تحتّل مكانًا معتبرًا من تفكير كارولين وهي تعبّر عن مركزيته في تفكيرها على طريقتها الخاصة. ففي احتفال الكاثوليك بعيد الميلاد المجيد في ٢٥ ديسمبر- تهنئ كارولين "الإخوة الكاثوليك" على صفحتها، وتعلّق بالقول: تصرّف وكأنك أغلبية، تريد بذلك أن تسخر من تهنئة المسلمين "للإخوة الأقباط" بأعيادهم الدينية. لماذا لا تبروز نرمين مفهوم الأقلية الدينية في كلامها على العكس من كارولين؟ عامل الطبقة الاجتماعية لا يكفي وحده للتفسير، ففي النهاية نحن إزاء شابتين تنتميان لنفس الطبقة الاجتماعية وهي الطبقة الوسطى، حتى ولو كانتا تنتميان إلى شريحتين مختلفتين داخل هذه الطبقة. هنا لابد من إدخال طبيعة المجتمع الذي تعيش فيه نرمين من حيث تركيبته السكانية. المجتمع الأمريكي هو مجتمع مستوطنين وأقليات من كل القوميات واللغات والأديان، وبالتالي فعندما تُرسل نيرمين ابنتها الأرثوذوكسية إلى حضانة يهودية فإنها تعلم أن ابنتها تمثّل أقلية تمامًا كما أن اليهود يمثّلون أقلية، وهي بحكم طول الإقامة في الخارج تتأثر بهذه الخلفية. ومع الإقرار بأن صعود اليمين المتطرف في أمريكا أثّر سلبًا على قيم العيش المشترك، لكن التأثير يظل نسبيًا .
• • •
عادت نيرمين من حيث أتت، حمَلت معها التوابل والردّة وكتب الأكل ووصفات الطبخ والحنين الدائم، وتركَت لكارولين كل أرقامها المتاحة، وأظن من المفيد متابعة إلى أين يقود التواصل طرفيه بعد أن فتح النقاش الباب لأسئلة كثيرة، أهمها سؤال: كيف نحقق التغيّر الثقافي الذي طال انتظاره حتى إذا ما التقت نرمين وكارولين كان المشترك بينهما أكبر؟