نزل أحمد البوّاب من فوق السلّم بعد أن علّق بنجاح حبلًا يتدلّى منه الكثير من الأهلّة والنجوم. قضى وقتًا لا بأس به في محاولة أن "يوسطن" الحبل في منتصف باب العمارة تمامًا، فكان مرة يذهب به لليسار ومرة يذهب به لليمين، وأخيرًا وصل إلى نقطة الوسط. لن تكتمل فرحته حتى تغرب شمس هذا اليوم، وتبدأ أنوار الهلال والنجمة في التلألؤ والإعلان عن أن رمضان جانا وفرحنا به أهلًا رمضان. هذا الرجل الحِمش القادم من أقاصي الصعيد الذي أتانا فردًا ثم تزوّج وأنجب، ومن ورائه جاءت أخته بأسرتها وأخوه فأخته الثانية و…. بدا كطفل صغير وهو يتأمل بإعجاب صنعة يديه ويسألني باعتبار أنني لا يعجبني العجب مع إنني مجرد واحدة من السكّان: كده كويس يا داكتورة؟ فأطيّب خاطره بكلمتين للمجاملة: حلو قوي يا أحمد، ليهّز رأسه في رضا ويبتلعه الجراچ.
• • •
المسألة بالنسبة لأحمد البوّاب لم تكن مجرّد فرحة برمضان، الصورة لها خلفيات أخرى فهمتها مؤخرّا وسوف أشرحها. كل العمارات من حولنا قام البوّابون بتعليق فروع النور على واجهاتها حتى تحوّل الشارع المظلم إلى كتلة من الضياء. والحق يقال إن زينة رمضان تطوّرت كثيرًا خلال السنوات الأخيرة، قبل ذلك كان الأمر يقتصر على بعض قصاقيص الورق الفضية والذهبية المعلّقة بين البيوت والمساجد والمحلات.. ثم تأتي نسمة الليل في فصل الصيف أو لفحة الهواء البارد في فصل الشتاء فتتطاير القصاصات الورقية وتخلق حالة من البهجة بقدوم الشهر الفضيل. هذا النوع من الزينة مازال موجودًا بالأساس في الأحياء الشعبية، وفي بعض الشوارع الخلفية في الأحياء الراقية، لكن عدا هذا فإن عقود الزينة صارت أشكالًا وألوانًا وتناسب كل الطبقات: لمبات ملونّة، وفوانيس، وشخصيات رمضانية محبّبة من أول فطوطة وحتى بوجي وطمطم. حتى هذه اللحظة لا أعرف لماذا أوقف بث فوازير رمضان مع إنها كانت متعة حقيقية لكل أفراد الأسرة. عن نفسي فتحت عيني على فوازير ثلاثي أضواء المسرح وكنت أحبهم حبّا كبيرًا وبالذات في وجود الضيف أحمد. وأصبح شهر رمضان في مخيلتي هو شهر الصيام والبّر والقرآن والولائم والفوازير. وعندما أسلمنا الثلاثي إلى نيللي العفريتة وكنت وقتها قد تزوّجت، فإذا بحلقاتها المبهرة خفيفة الظّل تصبح هي فرصتي العظيمة لأُجلس فيها ابني الكلبوظ أمام شاشة التلڤزيون وأطعمه كل ما أريد إطعامه. أنتهز دهشته الطفولية من الأنوار والاستعراضات والموسيقى، وأختطف بضع دقائق لأعشّيه على مزاجي ويصبح الأمر تمام التمام. أحببتُ دائمًا إطعام الأطفال، ومازلت أحب إطعامهم، وأجني ثمار هذه العادة السيئة عند أطباء التخسيس.
• • •
نعود مجدّدًا لأحمد البوّاب الذي شعر هذا العام فقط بأنه صار مثله مثل باقي البوّابين في الشارع الذين يعلـقون الزينة على واجهات عماراتهم، وأنه لم يعد هناك حد أحسن من حد، فهذه هي المرة الأولى التي نعلّق فيها فرع الهلال والنجمة على باب العمارة. تأكّد لي أن موضوع الاهتمام الشديد لأحمد البوّاب بتعليق الزينة يتجاوز الابتهاج بقدوم رمضان، لأنه هو نفسه كان قد حوّل الجراچ أو مملكته الخاصة إلى صورة مصغّرة من شارع الهرم في أوج عزّه في الستينيات والسبعينيات. لكن في النهاية فإن هذه الأنوار التي تومض وتنطفئ دون توقّف لا يراها أحد غيره هو وأسرته المكونّة -حتى الآن وربنا يستر- من زوجة وثلاثة أطفال. أما البوّابون في الحي فلا يعرفون شيئًا عن هذا الجهد الكبير الذي بذله أحمد ليجعل من الجراچ قطعة من الضوء تزعج حتى القطة المشمشية التي سرّبها سكان الطابق الأرضي. مَن هي القطة المشمشية؟ إنها تلك القطة اللطيفة التي لم تستطع أن تترك المكان ولا تنسى عِشرة أصحابها حتى وإن نسوها هم وفرّطوا فيها فتظّل طوال اليوم تحوم حول العمارة وهي تموء مواءً يقطع القلب، حتى إذا أتى الليل اختارت إحدى سيارات السكّان ونامت أسفلها. لن يعرف أحد شيئًا عن هذا الجهد الكبير الذي بذله أحمد في تزيين الجراچ، أولًا لأنه يتحرّج كصعيدي من إشهاد بوّابين الحيّ على هذا الجهد في مملكته/بيته، وثانيًا للموضوعية لأننا ما كنّا لنسمح بأن يتحوّل الجراچ إلى كافتيريا عم أحمد، يكفينا جدًا هؤلاء الأطفال الذين يأتون لا نعرف من أين ليقضون الويك إند -آي والله الويك إند-في الجراچ ويتجوّلون فيه فوق درّاجات نصف عمر هي من مخلفّات أحفاد السكّان، ومن جَيب كل طفل منهم يطّل جهاز آيفون.
• • •
تأكّد لي أيضًا أن المسألة بالنسبة لأحمد البوّاب هي مسألة كرامة وسُمعة في الشارع، لأن بعض السكان في عمارتنا كانوا قد علّقوا بالفعل زينة رمضان. وبالتالي لو كان الأمر يتعلّق بالاحتفاء بهلال الشهر الكريم فكل مظاهر الاحتفاء متوفرّة بالفعل، لكن أبداااااا هناك فرق بين زينة يعلّقها السكان على مزاجهم وزينة من شراء وتجهيز وتعليق أحمد البوّاب. هذا شئ وذاك شئ آخر. وهكذا صارت في عمارتنا ثلاثة مستويات من الأنوار، مستوى الواجهة الرئيسية، ومستوى الشقق في بعض طوابق العمارة، وأخيرًا مستوى الجراچ. في هذه الحدوتة البسيطة تفاصيل كثيرة تستحق التأمّل: الفرحة العابرة للطبقات والمناطق بقدوم رمضان من مصر للصعيد كما يقولون، والتركيبة المعقّدة للشخصية المصرية التي تجعل شخصًا جاف الطبع يتصرّف كأنه طفل تبهره الأضواء ويبهجه الهلال مع النجمة، وترتيب الأولويات الذي يسمح لأحمد بأن ينفق من حرّ ماله مع أنه ربما أحوج ما يكون هو وزوجته وأولاده الثلاثة إلى قيمة هذه الزينة، وأخيرًا مشاعر الغيرة بين أبناء الكار الواحد التي تظهر وتعبّر عن نفسها كلما سنحَت لها الفرصة، حتى لو كانت هذه الفرصة هي مجرد تزيين واجهة العمارة.
• • •
لا تستطيع عمارتنا أن تنافس بقوة باقي عمارات الشارع في الزينة المصروف عليها بسخاء فكل شئ لدينا بالمعقول، لكن يمكنها بمنتهى الثقة أن تجزم بأنها أسعدَت أحمد البواب.