ما أكثر ما كُتِبَ عن الأسباب التى قادت شباب الأمة العربية إلى تفجير الحراكات الجماهيرية الكبرى فى ساحات وشوارع العديد من أقطار الوطن العربى إبان فترة الخمس سنوات الماضية.
من بين تلك الأسباب ذُكِرَت مثالب وممارسات الدولة الوطنية العربية الخاطئة بحق الشباب، الفراغ المجتمعى السياسى بسبب ضعف الأحزاب والنقابات فى وجه سلطات حكم الدولة، وتدخلات ومؤامرات بعض قوى الخارج العربى. ولذا فالحراكات كانت ظاهرة طبيعية، وما حققه الشباب والشابات أصبح مادة قصائد وأغانى مديح وإعجاب وإكبار.
لكن ما إن واجهت الحراكات الجماهيرية المبهرة المصاعب وانتكس بعضها لأسباب موضوعية حتى زاغت أبصار المعجبين والمادحين عن موضوع الشباب وما أبدعوه، وبالتالى عن الإمكانيات المختزنة فيهم؛ ليصبح موضوع الشباب مختصرا فى بعض خطوات تقوم بها الدولة لتحسين أحوال معيشتهم. يكفى أن تقوم الدولة بتحسين فرص الشباب فى الحصول على الوظائف، وفى تمثيلهم فى المجالس بنسب معقولة، وفى تيسير التحاقهم بالجامعات...... إلخ، من خطوات مماثلة، حتى يتوقف الشباب عن الاستمرار فيما بدأوه.
***
تلك النظرة المُبسطة تطرح سؤالين: الأول يتعلق بما طرحه الشباب من شعارات. فهل تلك الخطوات كافية لتكون استجابة مقبولة لشعارات الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية التى صرخت بها حناجر الملايين؟ والثانى يتعلق بطبيعة سلطة الدولة العربية.
فإذا كانت غالبية سلطات الحكم قد فشلت فى بناء تنمية إنسانية شاملة، بما فى ذلك بناء نظام ديمقراطى يقوم على أسس المواطنة المتساوية فى الحقوق والفرص وبناء نظام اقتصادى إنتاجى ريعى بدائى، وذلك بسبب انتشار الفساد والمحسوبية والزبونية والولاءات الفرعية، سواء المذهبية أو القبلية أو الحزبية أو الطبقية، فهل يمكن الاعتماد على هكذا أنظمة حُكم للقيام بخطوات تراكمية معقولة لتحسين فرص الشباب وتمكينهم فى حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع؟
بل إن الأمر أكبر وأخطر من ذلك؛ فالشباب هم جزء من تكوين المجتمعات العربية، فإذا كانت الدولة العربية قد مارست ابتلاع مجتمعاتها فى جوفها منذ إنشائها ومارست ــ سواء بقصد أو بدون قصد ــ الهيمنة شبه الكاملة على نشاطات تلك المجتمعات، وبالتالى ساهمت فى جعلها مجتمعات عاجزة ولا مبالية ومعتمدة على ما يلقَى لها من فُتات الدولة الريعية، فما الذى سيجعل تلك الدولة تخرج عن عادتها السابقة وتُوَلِى اهتماما خاصا متميزا للشباب؟ والشباب فقط؟ وما الذى سيجعل مؤسسات المجتمع المدنى ــ المغلوب على أمره والمسجون فى جوف الدولة ــ قادرة هى الأخرى على مساعدة الشباب والوقوف معهم للحصول على حقوقهم؟
نحن إذن أمام دولة مبتلاة بشتى العلل وأمام مجتمع مدنى ضعيف ممزَق عاجز؛ إنه استنتاج مؤلم، ولكنه متجذِر فى الواقع العربى، أضف إلى ذلك أن الخارج لن يتدخَل إلا لخدمة مصالحه، ويجب أن لا يقحم فى حل مشاكل مجتمعاتنا.
***
وإذن، من سيُمَكِن الشباب ويُحَسِن فُرَصِه الحياتية ويُخرِجَه من جحيم المشكلات الكثيرة التى يواجهها فى حقول التعليم والصحة والعمل والمسكن والسياسة وغيرها؟
آن الأوان أن يواجه الشباب العربى الجواب على هذا السؤال، فلا يضيع فى متاهات الاعتماد على هذه الجهة الفاسدة أو تلك الجهة العاجزة، ولا يدخل فى غيبوبة أحلام اليقظة. فالجواب كما عَلَمنا تاريخ البشرية فى كل المجتمعات وعبر كل العصور، سيكون: الشباب أنفسهم، بلحمهم ودمهم، بقوة إرادتهم، بتنظيم صفوفهم، بالالتزام التام بقضايا مجتمعاتهم بما فى ذلك قضاياهم الخاصة بهم، أى من خلال العمل السياسى المدنى النضالى السلمى التراكمى، غير المتقطُع.
قد يكون نضالهم ذاك من خلال الالتحاق بتنظيمات موجودة وإدخال الحيوية فيها لإخراجها من غيبوبتها الحالية، أو من خلال خلق تنظيمات جديدة تتخطى عجز الماضى وتتعلَم من دروسه.
ولنضف إلى ذلك تحذيرا مهما: وهو أن النضال من خلال شبكات ووسائل التواصل الإلكترونى الاجتماعى يمكن أن يكون مساعدا لذلك العمل السياسى المؤسسى المُنظَم، ولكنه لن يكون بديلا عنه. هذا أمر يجب أن يتجذَر فى قلب وعقل وروح شباب الأمة العربية. فالعمل السياسى التاريخى سيحتاج إلى أكثر من تويتر وفيس بوك وأخواتهما.