كان واضحًا لى، وأنا أستمع إلى خطاب الرئيس الأمريكى بعد انتهاء اجتماعه مع رئيس وزراء الكيان الصهيونى، بشأن الخطة الأمريكية لإنهاء الحرب الإجرامية فى غزة، أننا أمام دعوة مشبوهة لتجرّع أنواع عديدة من السمِّ بالعسل. دعنى أشير إلى بعض من تلك السموم:
أولًا: بشّر الرئيس ترامب الفلسطينيين بأن الكيان الصهيونى لن يحتل غزة ولن يضمَّها إليه. ولكن، وهنا مربط الفرس، سيشرف على إدارة أمور غزة سلطة «السلام» برئاسته، ومساعدة بلير المجرم المخادع، حسب اعترافه، بما فيها تسمية حكومة محلية تضم «فلسطينيين» و«خبراء». ولا يمكن، لمعرفتنا بالنظام الأمريكى وحليفته المطيعة إنجلترا، استبعاد أن يكون اختيار أعضاء الحكومة الفلسطينيين من جواسيس أو أتباع الكيان، والخبراء من المتعاطفين مع الكيان الصهيونى أو حتى من الأمريكيين أو الأوروبيين المفاخرين بصهيونيتهم. والأدهى من ذلك، عدم ذكر مدة بقاء سلطة «السلام» هذه. ولا أستغرب أنها ستبقى تشرف على قطاع غزة طيلة الباقى من ولاية ترامب، ثم تسلّم إلى صديق أمريكى أو إنجليزى آخر للكيان.
ثانيًا: ويزداد الغموض وتكثر الأسئلة عندما نسمع الرئيس الأمريكى يتكلم عن الانسحاب «التدريجى» للجيش الصهيونى من غزة. عدم وجود تاريخ محدد لإتمام الانسحاب سيفتح الباب لأن تكون سرعة الانسحاب قوة ابتزاز أمريكى - صهيونى فى الموضوع الفلسطينى برمَّته.
سيتباطأ الانسحاب إذا تصرَّف الفلسطينيون بأى شكل لا يرضى الأمريكيين أو الصهاينة، وسيكون سريعًا كلما نجح الفلسطينيون فى أن يكونوا عبيدًا مطيعين وشعبًا بلا كرامة أو أحلام مستقبلية.
ثالثًا: قالها بالفم المليان الرئيس الأمريكى: بأن نتنياهو لن يقبل حاليًا بقيام دولة فلسطينية، وأنا، ترامب، أتعاطف معه. وإذًا، فثمن عدم احتلال غزة والوعد بعدم الترحيل القسرى للغزاويين هو إهانة ودفن الحق والحلم الفلسطينى بأن يعيش الفلسطينيون، مثل غيرهم، فى دولة وطنية مستقلة بكامل متطلباتها. عليهم أن يقبلوا بأن يظلوّا كلهم، مثل إخوتهم فى قسم فلسطين المحتل منذ عام 1948، كمواطنين من الدرجة الثانية، أو حتى كضيوف مؤقّتين، حتى تنجح أمريكا وإسرائيل مستقبلًا فى اقتطاع أرض من قطر عربى ما، لتكون وطنًا بديلًا للفلسطينيين المطرودين من أرض دولة إسرائيل الكبرى اليهودية القوية المتمددّة المهيمنة.
رابعًا: هكذا، وبدون ذرّة من حياء، أعلنها واضحة: نهاية حركة أبطال غزة المقاومين، الذين وقفوا كالجبال طيلة أكثر من سنتين يحاربون جبروت أمريكا وقدرات الإبادة الهولوكوستية الصهيونية، والذين لولا بطولاتهم وتضحياتهم، لما اضطرَّ ترامب ومعه المجرم نتنياهو للوقوف أمام العالم ليقدّموا بعض التنازلات المرغمين على قبولها.
ما كان يكفى الحقد الصهيونى ولا الجنون الأمريكى أن يلقى المقاومون السلاح للفئران الذين اختفوا فى جحورهم، وينسحبوا. كان لا بدَّ من إذلالهم ثم موتهم، أى اختفائهم من الوجود.
لكن ما لا يعرفه وأترابه وأمثاله، هو أن عبق البطولة وعظمة تضحياتها وسموّ شعاراتها لا ولن تموت.
هناك الكثير من السموم فى العسل المزَّيف المخلوط، لكنها أتفه من أن يشار إليها.