لا مبالغة فى القول: إن قصور الحكم والسياسة فى العالم تستيقظ على وقع قرارات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب. صرنا فى غالب الأيام، بل وأحيانا فى غالب ساعات اليوم الواحد نقف مشدوهين أمام ما يصدر عن البيت الأبيض الأمريكى من مواقف تمس دولة أخرى أو مجموعة دول أو العالم بأسره. لا مبالغة أيضا فى القول: إن الهم الأكبر لحكومات عديدة أصبح يدور حول أساليب الرد على تغريدات الرئيس ترامب وتصريحاته، حكومات تقرر التأقلم وأخرى المواجهة ونوع ثالث يختار الانتظار على أمل أن المؤسسات الأمريكية لن تتحمل طويلا هذا الرجل، فهى لن تجدد له لولاية ثانية أو إن نفد صبرها فقد تنهى عقد خدمته بالإقالة أو المحاكمة أو بكليهما معا. أما السؤال الذى يشغلنا، سواء كنا من الأكاديميين أو من الإعلاميين وخبراء العلاقات الدولية، فيدور بدوره حول أسباب هذه القوة والطلاقة والجرأة التى صارت تتسم بها السياسة الخارجية الأمريكية فى عهد دونالد ترامب، والظروف التى دفعت مثل هذا الرجل للظهور فى هذا الوقت وليس قبله وليس بعده.
***
قضينا سنوات نقرأ ونكتب عن تطورات لا تبشر بخير. كانت أمريكا تنحدر ولم تكن استعدت وأعدت العالم لعواقب هذا الانحدار فى قوتها الكلية على أمن العالم وسلامته ورخائه. كانت السلطوية كنظام حكم تتمدد وتتوسع والديمقراطية بأطيافها الغربية تنحسر بما تضمنه هذا التمدد وذاك الانحسار من مغزى بالغ الأهمية وهو أن أمريكا فقدت، أو فى طريقها، لتفقد بريق وجاذبية أهم أرصدة قواها الناعمة، وأعنى الحلم بالليبرالية. كنا نقرأ ونكتب عن مخاطر تفاقم إحدى أهم ظواهر السياسة فى العصر الحديث. أقصد ظاهرة الدول الفاشلة. ففى ركاب هذه الظاهرة تفاقمت ظواهر التطرف الدينى المسلح والهجرات المليونية والفساد غير المقيد والميليشيات الحاكمة. بل وجدنا أكثر من صلة تربط بين هذه الظاهرة والحال المترهلة لنظام دولى شاخت مؤسساته حتى ثارت شكوك حول صلاحيته للبقاء والاستمرار.
ثم إننا كتبنا كثيرا وقرأنا خلال سنوات سبقت ظهور دونالد ترامب على مسرح الرئاسة الأمريكية عن تحديات هائلة تواجه بل وتحاصر عديد الاقتصادات الدولية الكبيرة، تصدرت قفزات التكنولوجيا الحديثة قائمة التحديات. هذه التحديات وغيرها ترجمت نفسها فى أزمة اقتصادية هزت بعض قواعد النظام الرأسمالى العالمى وأثارت شهية المدافعين عن الرأسمالية وخصومها للتفكير فى أساليب لتحسين الأداء منعًا لكارثة. لم يكن خافيا فى ذلك الحين أن العولمة قد خلفت آثارا سلبية على العالم بأسره وإن بدرجات غير متساوية. تضررت قطاعات فى الولايات المتحدة كما فى غيرها. تضاعفت أرقام الهجرة من دول واقتصادات نامية وكان واضحا لكل من كتب وقرأ عن هذه القضية أن اصطدام هذه الهويات ببعضها البعض لن يكون ناعما ولا دافئا.
حدث هذا بينما كانت تزحف على الغرب، وخارجه، تيارات تبنت الشعبوية أسلوبا أسهل فى الحكم عن كل تلك الأساليب الديمقراطية والسلطوية التى جربتها دول عديدة وأثبتت أنها بطيئة ومعقدة ومكلفة. الشعبويون يطرحون طرقا أقصر للوصول إلى الأهداف، يلقون بمسئولية الحال المتردى على الطبقة السياسية التى هيمنت طويلا على الأحزاب والهيئات التشريعية. يعتمدون على الفئات المتضررة من العولمة وتدهور الحال الاقتصادية والعاطلين والكارهين للمهاجرين والغاضبين من اضطهاد البيروقراطية وفساد الديمقراطية. يحلمون بدولية جديدة يواجهون بها دولية «الوضع القائم»، أى النظام العالمى الراهن.
فى ذلك الوقت، أى فى السنوات التى أعقبت سقوط نظام القطب الواحد فى مستنقع الحملة الغبية على العراق، تعددت مؤشرات تؤكد تفاقم العجز فى النفوذ الدولى للولايات المتحدة الأمريكية. رأينا، كما قرأنا، أفكارا أمريكية عن الانسحاب من الشرق الأوسط وفكرنا بدورنا عن قلق إسرائيل لو انسحبت أمريكا من الشرق الأوسط وتسارعت خطوات انحدارها قبل أن توجه ضرباتها الحاسمة نحو تصفية القضية الفلسطينية وإسقاط النظام الحاكم فى إيران. كنا شهودا على قلق عام فى معظم العواصم العربية من وجود باراك أوباما على قمة السلطة فى أمريكا رئيسا عازما على الاستمرار فى تخفيض ميزانية التسلح وعلى إغلاق قواعد عسكرية فى الخارج وعلى مواصلة دعم القطاعات المطالبة بالحريات واحترام الحقوق.
***
انشغلنا، قبل صعود دونالد ترامب ولمدة عقدين على الأقل، بمتابعة تطورين على جانب كبير من الأهمية. تابعنا محاولة فلاديمير بوتين الناجحة تطبيق شعبوية بسمات سلطوية تساعده على استعادة مكان لروسيا فى صف الدول الأعظم فى العالم. لم يكن لدينا شك فى أنه فى غياب وجود حزب حكومة قوى كالحزب الشيوعى فى العهد السوفييتى أجاد بوتين استخدام الآلة الاستخباراتية الضخمة، إلى جانب الطاقة الكنسية الهائلة لتشكيل وعى قومى جديد بروسيا وطنًا أمًا. كذلك لم يكن لدينا شك فى أن قرب اكتمال مهمته فى الداخل سوف يدفعه حتما إلى تخطيط سياسة خارجية جاهزة لتنفيذ مهام تصادمية مع الغرب فى جبهتين على الأقل: أوروبا الغربية والشرق الأوسط. أفلح بوتين إذ فرض روسيا فعلا على الأجندة الأمريكية، دافعا إدارة الرئيس أوباما إلى حث الدولة الأمريكية على إعادة النظر فى سياستها تجاه روسيا. ولعلها كانت الشىء الوحيد الذى استعاره راضيا الرئيس ترامب من كل أعمال ونوايا الرئيس أوباما.
***
لم يهدد بوتين مكان أمريكا على قمة النظام العالمى. لم يطرح روسيا بديلا لأمريكا مكتفيا بعمل دءوب لإضعاف هيمنتها فى أوروبا وخلخلة نظامها الديمقراطى، إحدى الأذرع الرئيسة فى قوتها الدولية. الصين، ربما بدون نية مؤكدة، كانت فى صعودها الأسطورى تهدد موقع أمريكا فى القمة. كتبنا وقرأنا عن آليات وفنون الصعود ومخاطره، وكان معروفا للقاصى والدانى، أنه لم يوجد فى واشنطن قبل ظهور دونالد ترامب مفكر أو خبير يستبعد نشوب حرب فى موعد قريب أو غير بعيد بين الدولتين، دولة تنحدر قوة ونفوذا ودولة تصعد قوة ونفوذا، أو يستبعد، إن استمر الانحدار هنا والصعود هناك، أن يقرر طرف من الطرفين أو الاثنان معا إعادة النظر فى حال الاعتماد المتبادل بين اقتصاد الدولتين بغرض وضع قواعد جديدة تنظم، بدون النص على ذلك، سرعة الصعود فى جانب وسرعة الانحدار فى الجانب الآخر.
***
حاولت فى السطور السابقة عرض صورة مبسطة لتطورات وأوضاع سبقت بوجودها ظهور المرشح دونالد ترامب على الساحة السياسية وهى على أعتاب حملة لانتخاب رئيس جديد لأمريكا. هدفى كان ولا يزال المساهمة فى النقاش الدائر حول حجم كل من الحقيقة والخيال، فيما استقر من اقتناعات عن شخصية هذا الرجل وأهدافه وسياساته وأساليب عمله. أنا عند اعتقادى أن دونالد ترامب كان ولا يزال إحدى النتائج المنطقية لتطورات وأحداث «ثورية الجوهر» غيرت مجرى السياسة الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. ترامب نتيجة وليس سببا أصيلا وراء ما نشهده. أضاف بشخصيته وتاريخه وولاءاته وانحيازاته وتجاوزاته ولكنه لم يأت بها. ترامب وحقبته وما حققه وما أفسده وخربه لم يأت من فراغ.