فى أوقات الحروب والأزمات تتبدّل مهام البشر والآلات، يتحوّل المهندس أو العالم إلى حارس لشارعه ضمن جحافل اللجان الشعبية، تتحرك خطوط إنتاج المصانع المدنية لخدمة المجهود الحربى، تتحول مصانع الصلب إلى مصانع لإنتاج الدشم وقواعد الصواريخ، تماما كما فعلت مصانع شركة الحديد والصلب المصرية فى تاريخ حروبنا الحديث، وكما تصدّت العديد من مصانع السيارات حول العالم مؤخرا لإنتاج أجهزة التنفّس الصناعى، فى حرب بلادها مع فيروس كورونا الخانق. لا يهم إن كانت جودة المنتج تناسب أعلى المقاييس الصناعية والطبية، ففى وقت الأزمة وعند تصاعدها يعلو هدف تخفيف الخسائر وإنقاذ الأرواح على أى أهداف أخرى.
عندما تطورت تداعيات جائحة كورونا انكشفت الكثير من الأنظمة الطبية المتطورة، وتنازعت الحكومات الفيدرالية فيما بينها وبين حكومات محلية بيانات متضاربة عن ندرة المعدات والمستلزمات الطبية بصورة أدهشت العالم. بل إن بعض الدول اتهمت دولا أخرى ــ وكلها ينتسب إلى تصنيف العالم الأول ــ بأنها سطت على مستلزمات ومعدات طبية كانت فى طريقها إلى موانئها! بما يعيدنا إلى أهمية التصنيع المحلى والصناعة الوطنية الداعمة لاحتياجات الشعوب خاصة فى وقت الأزمات، وبما يؤكد على أن الركون إلى التجارة الخارجية ليس مضمونا فى عصر تصاعد مخاطر الحروب التجارية والصدامات العسكرية وانتشار الأوبئة. وما انتفاع أخى الدنيا بثرواته إن هو لم يجد سلعا بعينها ضرورية لإنقاذه من خطر الفناء؟!
***
وإذا كانت صناعة الأجهزة الطبية من الصناعات الدقيقة شديدة الحساسية، خاصة ما يتعلّق منها بأجهزة الإعاشة وعلى رأسها أجهزة التنفّس الصناعى التى تعرّض المريض إلى مخاطر انفجار الرئتين لا قدر الله، إن حدث خطأ فى ضغط الأكسجين مثلا بما لا يتناسب مع تطور حالته الصحية. وإذا كانت المعايير والمواصفات والاختبارات الصناعية والطبية اللازمة لخروج جهاز تنفّس جديد إلى النور، ربما يستلزم استيفاؤها أسابيع وأشهر بعد الانتهاء من النموذج الأولى القابل للتصنيع، فإن حدثا فارقا خلال الأسبوع الماضى قد حرّك المياه الراكدة لاستنفار الطاقات البحثية والصناعية لإنتاج أجهزة تنفّس محلية الصنع. فقد أعلنت شركة «مدترونيك» Medtronic الرائدة فى مجال صناعة الأجهزة الطبية إتاحة تصميمات أحد أجهزة التنفّس المحمولة التى تصنّعها، دون أى اعتبار لحقوق الملكية الفكرية التى تمتلكها الشركة على الجهاز، فى محاولة لمساعدة مختلف الدول على تصنيع أجهزة مثيلة تصلح للاستخدام فى ظروف الطوارئ، وعندما تمتلئ أسرّة المستشفيات بالمرضى المحتاجين لأجهزة التنفّس الصناعى. عندما قرأت هذا الإعلان زالت فى تصورى نصف الموانع التى تحول دون التحرّك لتصنيع هذا الجهاز فى مصر، خاصة أنه مستوفٍ بالفعل لمختلف الموافقات، ومجتاز للاختبارات التى تعد المانع الأكبر لظهور أى جهاز تنفّس جديد. تظل طبعا الموانع الأخرى التى ترتبط بالبيئة الصناعية اللازم توافرها فى مصانع تجميع مكونات الجهاز المذكور، وموانع خاصة بالمكونات سنتعرض لها لاحقا فى هذا المقال. لذا فقد أطلقت نداءً (عرف فى وسائل الإعلام بالمبادرة) للمتخصصين خاصة فى مجال الهندسة الطبية والباحثين الجادين الراغبين فى تنفيذ نموذج أوّلى مختبر لهذا الجهاز، لكى يستفيدوا من أى إمكانات صناعية مادية وبشرية متوافرة لدى الشركة القابضة للصناعات المعدنية وشركاتها التابعة المنتشرة فى مختلف المحافظات، شريطة أن يجدوها مناسبة للعملية التصنيعية، أو فى القليل قابلة للتعديل تحت إشراف متخصص بالطبع.
منذ إطلاق النداء أو قل إن شئت مبادرة تصنيع أجهزة التنفس الصناعى المصرية فإن الاتصالات لم تتوقف من قبل المتطوعين الأفراد والشركات والمجموعات البحثية التى تعمل بالفعل على الأرض من قبل أن تسقط الشركة الكبرى حقوق ملكيتها الفكرية على أحد أجهزتها.. المجموعات البحثية بعضها قام بتفكيك أجهزة تنفّس قديمة وبدأ فى محاكاتها بمكونات محلية الصنع 100%، يعيب هذا النوع من الأجهزة أنه إما بسيط يدير هواء الغرفة فقط أو mechanical ليس به تعقيدات إلكترونية تحد من الأخطاء البشرية، وتصلح جهاز إعاشة «متكامل» لمصاب الكورونا، لكنها لا تختلف كثيرا عن الأجهزة مفتوحة المصدر open source التى أتاحتها بعض الجهات البحثية على الإنترنت، ومنها معهد إم آى تى Massachusetts Institute of Technology، والتى تلجأ المستشفيات المهمة فى نيويورك حاليا إلى تصنيعها فى سباق مع الزمن، للوفاء باحتياجاتها الطارئة التى عجزت عن تلبيتها الحكومة الفيدرالية. ونظرا لتعدد المبادرات وتشعّب جهات البحث العلمى المنخرطة فى هذا العمل الإنسانى، فقد كان من الضرورى سرعة تشكيل هيكل تنظيمى متكامل يسهّل عملية التواصل بين تلك المجموعات والمبادرات، ويقود الجهود المؤسسية الأخرى المستجيبة لإعلان «مدترونيك» ونداء الشركة القابضة للصناعات المعدنية.
***
مجموعات العمل التى تم تشكيلها سريعا من قبل فريق العمل بالشركة القابضة بدأت أنشطتها خلال أربع وعشرين ساعة من إطلاق النداء وتكوّنت من: لجنة تنسيق مركزية ــ حاضنة مجموعات بحثية وتتبعها لجنة تصميم الجهاز ــ مجموعة دراسة الاحتياجات ــ مجموعة الإجراءات والمواصفات ــ مجموعة الأطباء ــ مجموعة دراسة المصانع ــ مجموعة عمل التسويق والتمويل ــ مجموعة عمل الاتصال وتبادل المعلومات ــ مجموعة عمل تحليل الاحتياجات والمكونات ــ مجموعة عمل دراسة مواقع المصانع وتأهيلها..).
لم نطلق اسما على هذا النداء أو تلك المبادرة لأن هدفنا أن نكون خلف المجموعات البحثية وليس أمامها. نريد أن نساعدهم بكل ما يحتاجون كى يتفرغوا لعملهم البحثى. نريد أن نوفّر لهم النواقص من المكوّنات، نساعدهم على التواصل الفعّال للتكامل فيما بينهم، وللتبادل المعرفى اللازم فى هذا النوع من الإنتاج، نريد أن نعمل معهم على التوازى لتوفير بيئة تصنيعية للأجهزة، بفرض اجتيازها للمعايير والاختبارات، حتى لا نبدأ متأخرين فى تجهيز وتحويل المصانع. نعمل بالشراكة مع مصانع القطاع الخاص، لا يهدف أحد إلى الاستئثار بأى عملية تصنيعية، يكفينا أن نصنّع مكوّنا واحدا يصلح لعمل الأجهزة، يكفينا تعبئة الأكسجين عالى النقاوة الذى يمكن أن يتم توفيره مع الأجهزة للاستخدام خارج المستشفيات المجهّزة.. يكفينا أن نوفّر على الباحثين الوقت المهدر فى البحث عن المكونات أو شراء المستلزمات أو الغوص فى إجراءات الاعتماد أو الرجوع إلى المصادر القانونية.. أى شىء يمكن توفيره يكفينا شرفا أن نكون جزءا منه أفرادا ومؤسسات.
العروض التمويلية لم تتوقف، لكننى لا أراها تشكّل أى عقبة فى هذا المشروع وفى تلك المرحلة المبكرة على وجه التحديد. إحدى الشركات الخاصة (شركة حلوان للأسمدة) عرضت التبرّع للمبادرة فآثرت أن تتوجه بتبرّعها كاملا لصندوق تحيا مصر، والذى لن يتأخر عن دعم أى عمل جاد لإدارة الأزمة. مع هذا شكّلت لجنة للاحتياجات التمويلية تحسبا للدخول فى المرحلة التصنيعية على أن يكون عملها حاليا قاصرا على تقدير الاحتياجات التمويلية لكل مرحلة، بما فى ذلك شراء المكونات، وتكلفة تأهيل خطوط الإنتاج، ونفقات التشغيل، وشبكات التوزيع.. إلى غير ذلك.
التحدى الكبير الذى يواجه الباحثين لمحاكاة جهاز التنفس الذى أتاحت medtronic تصميماته متخلية عن حقوق الملكية الفكرية هو ندرة بعض الحساسات والأجزاء المهمة اللازمة لتشغيل الجهاز خاصة أنها بمواصفات طبية medical grade.. البديل المحلى للأجزاء الميكانيكية ممكن جدا لكن تصنيع بديل لأجزاء ودوائر إلكترونية أمر يحتاج وقتا طويلا لا تملكه الدول.. ندرة المكونات تسببت فى رفع أسعارها واختفائها وعزوف الشركات عن تصديرها للغير، وهذا أمر طبيعى خاصة بعد أن أتيحت تلك التصميمات للجميع.
التحدى الثانى هو طريقة إتاحة المعلومات والتصميمات فى وثائق بلغت ٣٠ ألف وثيقة تقريبا وبعض الفرق البحثية تؤكد على عدم وجود المنظومة الأهم بين تلك الوثائق.. لكن الأمل فى الهندسة العكسية للأجهزة أكبر فى هذا التوقيت.. البحث جارٍ عن جهاز ولو قديم ومتوقف من إنتاج ميدترونيك حتى نتيحة للفرق البحثية المعنية بمحاكاة هذا النوع من الأجهزة.. فى الوقت ذاته هناك أجهزة أقل تعقيدا تعكف فرق أخرى على الانتهاء منها سريعا وبأكبر نسبة من المكونات المحلية.. وكثير من الأجهزة الـ open source المتاحة على الإنترنت ومنها جهاز MIT هى أجهزة mechanical تفى بالغرض عند الضرورة القصوى، ونتمنى أن توفق الفرق المصرية فى اعتماد أحدها سريعا من جهات الاعتماد حتى يمكن البدء فى عملية التصنيع.
كلى أمل فى طاقات المصريين وإبداعهم الذى يظهر جليا عند الضرورة، وأشكر كل من بادر بالتواصل لتقديم المساعدة من شركات وأفراد ومؤسسات علمية وبحثية وروتارى وشركات ترعى المسئولية المجتمعية، فضلا عن كل الأجهزة الرقابية الوطنية والسيد رئيس هيئة الشراء الموحّد، والجهات الإعلامية التى ساهمت فى إحداث الزخم المطلوب لتكامل الجهود فى بوتقة واحدة عوضا عن تشتتها والعمل فى جزر منعزلة وما يعتريه من صعوبات وتحديات.