(1)
قبل أربعة عشر عامًا غادرنا المفكر المصلح والأكاديمى الفذ الدكتور نصر أبو زيد (1943-2010) الذى اقترن اسمه بواحدة من نكبات العقل العربى «المسلم» فى القرن العشرين، وكأنه كان فى ذلك امتدادًا وتمثيلًا لمحنة جده بالفكر، الفيلسوف العربى المسلم «ابن رشد»، فكلاهما دفع ثمنًا غاليًا لاجتهاداته الفكرية ورؤيته الفلسفية «العقلانية»، وتأويلاته المنفتحة الخصبة للنصوص الدينية، وما زلنا حتى وقتنا هذا نعانى من سطوة أصحاب الفكر الواحد والرؤية الواحدة فى مقابل أصحاب الرؤى والاجتهادات والآراء المتنوعة الثرية فى معالجة قضايا الفكر والتجديد والإصلاح الدينى.
(2) إن ما قدمه نصر أبو زيد فى دراسته الجادة والعميقة للإسلام، من إبراز وجهه النضر وتجلية قيمه الإنسانية الناصعة سيبقى خالدًا ومتجددا. إنه الباحث المخلص الذى أثبت - عبر كتبه ودراساته - أن الإسلام ليس دينًا جامدًا، أو مجموعة من الأوامر المحددة، وأنه ليس دينًا عنيفًا أو إرهابيًا بطبيعته، وأن أى دين يمكن إساءة استخدامه، وتسييسه، والتلاعب به لصالح خدمة أيديولوجيا معيّنة.. سئل رحمه الله فى حوار صحفى عن ما الذى يمكن للإسلام أن يعطيه لحضارات الغرب الآن، فى ضوء دراساتك حول التراث وضرورة إعادة التفكير فى مصادر العلوم الإسلامية؟ أجاب قائلا: يمكن للإسلام أن يعطى الكثير للحضارة الإنسانية المعاصرة؛ لأن لديه الكثير الذى يعطيه. أتحدث هنا عن الإسلام بوصفه «ثقافة» و«حضارة» متعددة الاتجاهات واللغات، ولا أقصر حديثى على العقيدة أو الشريعة. هناك فى أروقة الفضاء الثقافى الإسلامى ودهاليزه مناطق لم يتم اكتشافها بعد، وهى مناطق حبلى فى تقديرى بإمكانات العطاء والإثراء فى مجالات الفن والأدب والعمارة، هذا بالإضافة إلى التجارب الروحية... نحن فى عصر يشتد حنين أبنائه إلى نمط من «اليقين» لا يستنبط من الأنماط التقليدية الإقصائية الاستبعادية، وهذا النمط يمكن أن يمنحه الإسلام المتحرر من السلفية - أو بالأحرى السلفيات - المسيطرة عليه التى تحجب قدرة بعض المثقفين عن التفكير خارجها. هذه السلفية نفسها هى المسيطرة على عقول صانعى القرار وبعض المثقفين فى الغرب عن الإسلام (من مقابلةٍ حوارية مطولة أجرتها مجلة «ألف» للبلاغة المقارنة مع نصر أبو زيد، خريف 2008). وكان رحمه الله يقول ويشدد فى القول والدعوة إن «الحديث عن ضرورة وجود مناطق فكرية آمنة بمعزل عن التساؤل والنقد والنقاش الحر هو مقدمة الحجر على العقول، وممارسة سلطة رقابية لا وجود لها فى تاريخ الفكر الإسلامى.. وحين وُجدت كان هذا إيذانًا ببداية النهاية، ودخول عصر الجمود والانحطاط فى كل المجالات، لا فى مجال الخطاب الدينى وحده»..
(3) إن من يقرأ الكلمات السابقة بوعى بعمق وروية يجدها تنم عن عبقرية فكرية فذة، استطاعت أن تغوص فى لبّ الحضارة الإسلامية وأنساقها الثقافية والمعرفية العميقة والمتداخلة والمتشابكة، وتعرف مكمن الداء الذى أصاب هذه الأمة فى مقتل.. إنه الفكر الذى يقرأ الآخر بكل وعى وروية بعيدًا عن الدوائر المغلقة التى كبلت العقل وعطلته وجعلته أسير «الرأى الواحد» و«التفسير الواحد» و«النقل الواحد». عندما تعرضت حياته للخطر بسبب الهجوم الكاسح والوحشى من أنصار التيار الدينى الجامد والمتطرف، واضطر إلى الخروج من مصر للتدريس فى إحدى أعرق الجامعات بهولندا، كان على وعى تام بأنه يخوض معركة ضد المتطرفين وليس ضد الدين أو ضد الإسلام، كما حاول خصومه أن يصوروا ذلك للعامة والبسطاء، يقول: «لا أريد أن يؤخذ عنى انطباع بأنى ضد الإسلام، بل أنا على العكس من ذلك، أنا لستُ سلمان رشدى جديدًا. إن أحد أكبر مخاوفى أن يعتبرنى الغربيون ناقدًا للإسلام. هذه ليست الصورة كاملة، أنا معلم وباحث ومفكر. أرى دورى هو إنتاج الأفكار، كما أتعامل مع القرآن كنص إلهى أوحى به للنبى محمد».
(4) إن ما قدمه نصر أبو زيد للثقافة العربية والإسلامية أكبر من أن يختزل فى كلمة هنا أو تقدير هناك.. وفى يوم ما (كنا نظنه قريبًا) سيعيد جيل جديد - أظنه قد بزغ للنور فعلًا - قراءة ما كتبه نصر وسيكتشفون نضارة وحيوية أفكاره القابلة للتطوير والتجديد، وسيعرفون أنه غرس بذورًا ناضجة ستؤتى أكلها ما تحقق شرط نموها وانتشارها من حرية وعدل وعدالة سعى إليها طيلة عمره.. واشترك فى غرسها والدعوة إليها مع أستاذه المبدع نجيب محفوظ؛ كل فى مساره وعلى طريقته.. ماذا يبقى من نصر أبو زيد؟ وهل تعيد الثقافة العربية «المنكوبة» اكتشاف مشروع واحد من أكبر مصلحيها ومجدديها بالمعنيين الإنسانى والمنهجى؟ وهل ستكون أعمال أبو زيد إحدى الركائز الفكرية والثقافية التى تساعدنا فى الانتقال من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية؟ المستقبل وحده يحمل الإجابة عن هذه الأسئلة..